العرب - كانت أفضل الباصات التي تُصمّمُ هياكلها محليا هي تلك التي تصنع في النجف، وذلك لدقة صنعها ومتانتها، حتى صار العراقيون إذا أردوا أن يمتدحوا سيارة يقولون إنها دق النجف. ثم أصبح القول يسري على كل شيء، حتى على الشعر الجيد، والخطبة البليغة، والأكل الشهي المتقن. والذي يجاهد السيد مقتدى الصدر وعمار الحكيم من أجله اليوم ليس له هدف سوى تصفية الحساب مع حزب الدعوة في شخص رئيس الوزراء الضعيف الحالي حيدر العبادي، والمقصود هو غريمهما الأول نوري المالكي، باسم حكومة تكنوقراط، ودق النجف أيضا. والمعروف أن كلمة تكنوقراط تعني سلطة الخبراء والمتخصصين، والذين يفترض أن يكونوا علمانيين يؤمنون فقط بسلطة العلم وحدها، بعيدا عن أي فكر حزبي أو ديني أو طائفي آخر.
ولكن الوزراء المقترحين، كما أظهرت قائمة الترشيحات، إما موالون، دينيا وطائفيا، أو مؤازرون، أو مرزوقون برضا المجلس الأعلى، أو التيار الصدري، أو ميليشيا بدر، أو حزب الفضيلة أو حسين الشهرستاني، و(تكنوقراطيتهم) فقط لأنهم غير معممين، وحاصلون على شهادات جامعية عراقية أو عربية أو أجنبية، أو متخرجون من مدارس دينية في النجف أو قم أو طهران أو لندن. والهمُّ الأكبر أن قائد التغيير المُعتصم حول المنطقة الخضراء، السيد مقتدى الصدر، ومعه حاقدون آخرون على حزب الدعوة، يعلن أن دافعه الأول والأخير هو الإصلاح، ومحاسبة الفاسدين، وإعادة اللحمة إلى الشمل العراقي المُفتت، ووقف نزيف الدولة العراقية المالي والبشري والأمني، واستعادة الكرامة والسيادة وحكم القانون.
حسنا، أليست الحكومات المتعاقبة من 2003 إلى اليوم حكومات خبراء ذوي شهادات علمية ومهنية عليا؟ فهل منعتهم شهاداتهم كلها من الاختلاس والتزوير والغش والظلم والانتهازية؟ وهل سيكون وزير التكنوقراط الجديد أفضل من وزير التكنوقراط عادل عبدالمهدي، أو باقر صولاغ، مثلا؟ أم سيكون أفضل من سعادة التكنوقراط مندوب الشعب العراقي لدى الأمم المتحدة الدكتور محمد الحكيم الذي رفض السلام على سيدة إيزيدية عراقية دعتها المنظمة الدولية للحديث عن بشاعات داعش، مبررا ذلك بأنها من (أهل الذمة)؟.
أم أفضل من عالم الذرة حسين الشهرستاني بطل صفقة منح النفط العراقي لشركات ما سمي بالتراخيص، والذي منعه تلاميذ جامعة المستنصرية أخيرا من دخولها هاتفين ضده بقولهم، فاشل… فاشل… فاشل؟ نعم لقد أمر السيد مقتدى بحجز عضو تياره بهاء الأعرجي، مؤخرا، للتحقيق معه في اتهامات بالإثراء غير المشروع. ولكن أين كان طيلة ثلاث عشرة سنة كان فيها الأعرجي أحد كبار قادة العملية السياسية، يشتري ويبيع ويأمر ويطاع؟ فإن كان يعلم و(يطنّش) فتلك مصيبة، وإن كان آخر من يعلم فتلك مصيبة المصائب التي لا تحتمل.
إن الذي يغيب عن بال الجموع المعتصمة، سواء تلك المدفوعة بحسن نية ووطنية، أو المستأجرة، أو المخدرة بالحديث عن العدالة والنزاهة والتكنوقراط، أمران مهمان، الأول أن الرئيس الإيراني شخصيا، بشحمه ولحمه، قادم لتنظيم المرور بين حزب الدعوة والمجلس ومقتدى. والثاني أنْ لا ذبابة ولا حمامة ولا بومة تملك القدرة على الطيران في سماء المنطقة الخضراء دون إذنٍ من سفارة الولي الفقيه في بغداد وتوجيهاتها وخطوطها الحُمر والخُضر والبيْن بين. والأهم من كل هذا هو اعتبار حكومة التكنوقراط الجديدة إكسيرَ الحياة السحريّ المعجزة التي سيصحو الوطن، بلمسة من إحدى يديها، معافى وممتلئا عدلا وأمانا ورخاء وكرامة.
ولو نُصب طرزانٌ نقيٌ شريفٌ شجاعٌ أصيل وزيرا لن يرفع زيرا من بير، مهما قال ومهما فعل. هذا إذا كان فعلا راغبا في صنع المعجزات. والسبب أن وزيرا شريفا في وزارة فاسدة، من شعر رأسها إلى أخمص قدميها، لا يملك سوى واحدٍ فقط من خيارين، الأول أن يلين، بعد شهر أو اثنين أو ثلاثة، فيساير الموجة ويغنم السلامة من الاغتيال، أو من اختطاف أحدٍ من أسرته، أو من التلفيقات واختلاق الفضائح. والثاني أن يفقد عقله، فيجرد سيفه، ويدخل منازلة دامية مع جيوش الفاسدين من حوله، وهي منازلة خاسرة، ولا ريب. ودولة فاشلة، وسلطة فاشلة، لا تصلحان بالترقيع والتلميع وتبادل الكراسي. ثم أي إنسان متعلم ومستقل ونزيه وشجاع يقبل بأن يُستَوْزَرَ بتزكية من زعيم ديني طائفي متخلف متهم بالإثراء غير المشروع وباحتلال قصور الدولة ووزاراتها وسفاراتها بالغش والمحاباة، بعيدا عن أي وازع من خلق أو دين؟
نعم للإصلاح ونعم لحكومة إنقاذ جديدة، ولكن على ألا تكون (دق النجف) هذه المرة، بل (دق) الحلة والناصرية والكوت والبصرة والموصل والرمادي وأربيل والمقدادية وكركوك وتكريت. وإن لم يشترط المُصلحون المطالبون بحكومة تكنوقراط، هذه الأيام، أن يكون المرشح ديمقراطيا وعلمانيا يرفض وصاية رجل الدين ورئيس القبيلة وقائد الميليشيا وحرامي البنوك، فلن تقوم لهذا الوطن قائمة، من اليوم وإلى أبد الآبدين.