الحياة - التشكيلة الحكومية الجديدة لحيدر العبادي ليست خشبة الخلاص للعراق. لن يكون نصيبها في مجلس النواب أفضل من الإصلاحات التي قدمها رئيس الحكومة في السابق إلى البرلمان. ولن يكون نصيبها أفضل من نتائج سعيه إلى التحول في السياسة الخارجية والقطع مع نهج سلفه نوري المالكي. فلا الدعم الكبير الذي تلقاه من المرجعية الدينية في النجف سمح له باختراق جبهة القوى والكتل السياسية. ولا اعتماده على الرافعة الشعبية في الشارع مكّنته من مواجهة الميليشيات التي أثبتت أنها أمضى سلاحاً وأكثر فاعلية من قوات الدولة وأجهزتها. وقد لا يكون التأييد الذي يحظى به من التيار الصدري أكثر من جرعة مسكنة للشارع. فقد نجح السيد مقتدى الصدر في حمل راية المتظاهرين.
كاد أن يختصرهم جميعاً برفع مطالبهم في الإصلاح وتوفير الخدمات وقطع دابر الفساد وإنهاء نظام المحاصصة. لكن هؤلاء، أو جلهم يعرف أن الصدر كان جزءاً من الحكومة. وأن وزراءه لم يكونوا أفضل أداء من زملائهم. ويعرف أنه جزء من التحالف الذي يهيمن على الحياة السياسية والإدارة التي تعج بالموظفين الذين يناهزون ربع عدد سكان البلاد. وكثيرون منهم ليسوا أفضل حالاً من أولئك الجنود «الفضائيين» الذين كشفتهم مأساة سقوط الموصل بيد «دولة أبي بكر البغدادي». ويعرف المتظاهرون أيضاً أن العلة في القــوى والأحزاب الدينـــية التي تحكم الطـوق على الأعناق. فهل يكون الخلاص بــيد زعـيم ديني، أم أن حمله الراية يبقــــيها في أيدي هذه القوى؟
لا شك في أن لمقتدى الصدر حسابات خاصة. لم يخف مواقفه المناهضة لنوري المالكي، على رغم ما خلفت له من توتر في العلاقة مع إيران. وهو سعى ويسعى إلى ضرب نفوذه داخل «التحالف الوطني» الشيعي. وطالب ويطالب بمحاكمته بتهم الفساد. ولكن قد تكون ثمة مبالغة في اعتبار طهران متضررة من حراكه وحمله راية المتظاهرين الذين انطلقت غضبتهم الصيف الماضي من محافظات الجنوب. ولم تخل شعاراتهم من الدعوة إلى رفع يد الجمهورية الإسلامية عن حكومة بغداد.
وهو ما شجع المرجعية على تأييدهم وحض حكومة العبادي على استجابة مطالبهم والتحرك «استناداً إلى التفويض الشعبي» من أجل تحقيق الإصلاح المنشود، بدل التمسك بنصوص الدستور الذي تتمسك به القوى المتنفذة والمستفيدة، ولا ترغب في تعديله أو تغييره لإنقاذ البلاد من الانهيار. والمعروف أن الصراع بين القوى الشيعية لا يقتصر على الزعامة السياسية، بل يتجاوزها إلى الخلاف الخفي بين مرجعيتي النجف وقم. وكان المرجع الأعلى علي السيستاني صرح قبل نحو سنة بأن «العراقيين يعتزون بوطنيتهم وهويتهم واستقلالهم وسيادتهم»، في إشارة إلى تدخل طهران. ورحب بأي «مساعدة تقدم إلينا اليوم من الأصدقاء في حربنا ضد الإرهاب ونشكرهم عليها (...) والمساعدة من الأصدقاء والشكر لهم لا يعنيان في حال من الأحوال أننا يمكن أن نغض الطرف عن هويتنا واستقلالنا، ولا يمكن أن نكون جزءاً من أي تصورات خاطئة في أذهان بعض المسؤولين هنا أو هناك».
وكانت «عودة» الولايات المتحدة إلى العراق فاقمت الصراع بين القوى السياسية. فقد سعت إلى «محاصصة» مع إيران، ورافعتها الحرب على «داعش» وما تفرضه من إعادة تصويب للحياة السياسية ووجوب إشراك القوى السنية التي همشتها حكومة المالكي ودفعتها إلى التلكؤ في مواجهة «دولة البغدادي». لذلك قد تكون ثمة مبالغة في وضع حراك الصدر في خانة إضعاف النفوذ الإيراني الذي وفر له الإقامة في قم عندما دعت القوات الأميركية إلى تقديمه إلى القضاء بتهمة التورط في قتل السيد مجيد الخوئي. وهو لا يزال يرفع الصوت ضد كل وجود أميركي في العراق.
ولا يضير طهران أن يحمل راية المتظاهرين الذين لا قيادة جماعية لهم لكنهم استطاعوا أن يشكلوا حالة لم يعد متاحاً قمعها كما فعل زعيم «دولة القانون» مطلع العام 2011 إثر هبوب عواصف «الربيع العربي». بل من مصلحتها أن تظل الراية معقودة لرموز القوى الشيعية، ما دام أن رهانها على المالكي بات مستحيلاً تجديده. وهناك في صفوف القوى العلمانية التي استطاعت أن تجيش الشارع وتؤلبه على السياسيين من يعتقد بأن الصدر كان أفضل من يحمل راية الغاضبين، نظراً إلى تركيبة تياره المعروفة بتعدد مشاربها. لذلك تراهن هذه القوى على أن الشارع الذي سيراقب موقف مجلس النواب من التشكيلة الجديدة سيعاود تحركه حتى فرض التغيير المطلوب والذي يحتاج إلى «ثورة حقيقية».
لعل العبادي يريد أن يقلد تجربة لبنان مطلع السبعينات. يومها رغب الرئيس سليمان فرنجية في أن يشكل الرئيس صائب سلام «حكومة شباب» من التكنوقراط. لكن تلك التجربة لم تعمر. ولم يشهد لبنان الإصلاح المنشود إلى اليوم. ولم تساعد ذلك العهد في تحاشي السقوط في الحرب الأهلية المستمرة تداعياتها. ولم تقض على «الدولة الفلسطينية» التي أقامتها منظمة التحرير داخل الدولة إلا بعد خراب البلاد وما شهدت من مذابح وتدمير وغزو إسرائيلي. مشكلة العراق، كما كانت مشكلة لبنان، هي في الحاجة إلى إصلاح سياسي جذري يخرج الدولة من نظام المحاصصة.
فكيف يمكن أن يعول العبادي على برلمان تتقاسمه القوى الطائفية عماد هذا النظام وراعيته؟ عليه ألا يتوقع مساندة، بل معاندة من هذه القوى ما دام أنه يحيل كل إصلاحاته وإجراءاته على موافقة كتلها المهيمنة في مجلس النواب! لا ينفعه أن يكرر تجربة سلفه في تعيينات بالوكالة وتغييرات موقتة في مصالح الدولة وإداراتها ومؤسساتها ومرافقها. ولن يفيده إلقاء المسؤولية على عاتق الكتل البرلمانية التي يمكنها ببساطة أن تعرقل أي خطوة إصلاحية، أو أي إجراءات لتفعيل عمل الوزارات ما دامت تحشر مناصريها ومحازبيها في كل الإدارات والمؤسسات. وما دامت تتمتع بقوة على الأرض لا يملك رئيس الوزراء ما يمكنه من مواجهتها. وما دامت تضع عنوان مواجهة الإرهاب أولوية. مع أنها تدرك أن تنفيذ برنامج الإصلاح الذي نصت عليه وثيقة التوافق السياسي يوم تولى العبادي رئاسة الحكومة هو نصف الطريق نحو هزيمة الإرهاب و«دولة الخلافة».
يمكن العبادي أن يستعيد المبادرة، ويرفع التحدي في مواجهة الكتل النيابية. يمكنه الإفادة من الصراع داخل البيت الشيعي. ليس لإضعاف هذا التحالف فهو جزء رئيسي منه، وهو ممثله على رأس الحكومة. وليس بوسعه أو بحسابه ضربه. يمكنه الاعتماد على «ثورة» التيار الصدري، أياً كانت أهداف الصدر وحساباته، وذلك للحد من غلواء المالكي غريمه وزميله في حزب الدعوة. وللحد من تغول قوات «الحشد الشعبي» وسطوتها. ويمكنه التعويل على تأييد الولايات المتحدة التي عادت تحت راية التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، لأداء دور مواز يمكن في النهاية أن يخفف من قبضة إيران وميليشياتها، وإن لم يرفعها كلياً. وفي هذا ما يتيح له خيار الانفتاح على المحيط العربي. فإذا كانت إيران تعلن استعدادها للحوار مع هذا المحيط المجاور فإن العراق أولى بالانفتاح على أشقائه العرب. ويوفر له ذلك نوعاً من التوازن. وربما كانت الفرصة سانحة فيما الجمهورية الإسلامية هي الأخرى تخوض حراكاً بين تياراتها المختلفة من أجل اعتماد سياسات جديدة بعد الاتفاق النووي مع الدول الكبرى وعودة دورها إلى المجتمع الدولي سياسياً واقتصادياً.
لا يحتاج العراق إلى حكومة جديدة أياً كان وصفها إذا كان على العبادي أن ينتظر توافق الكتل السياسية. أو إذا كان عليه أن يلقي عليهم مسؤولية عرقلة الإصلاحات. لقد ضيع ما يقرب من السنتين في التردد والخوف من المواجهة. ضيع تأييد المرجعية الذي لم يحظ أحد بمثله من قبل. وما لم يقدم على إصلاحات حقيقية لقطع دابر الفساد وإصلاح الإدارة والقضاء. وما لم يجازف بدفع البرلمان إلى مواجهة الغاضبين في الشارع أو في أوساط القوى التي يطحنها نظام المحاصصة فإن العراق سيغرق في مزيد من الفوضى والانهيار الاقتصادي. إن أولى خطوات ضرب الإرهاب تبدأ بضرب مراكز القوة التي تستولي على الدولة ومؤسساتها وتصادر الحياة السياسية... فهل يقدم رئيس الوزراء؟