العرب - تعايشتُ لشهور قليلة مع سجناء سياسيين سابقين، أو سجناء رأي كما يسمون أو يفضلون أن يطلق عليهم، واكتشفت أنهم سجناء ذاكرة، ومع أن إطلاق سراحهم مرّ عليه عقد من الزمن وأكثر، لكنهم يتصرفون بمحدودية أمتار محسوبة من الأرض وضيق أفق وتكرار واجترار الحسرة والتأفف والدوران في تلك القيود والسجن والسجان.
ينطبق هذا حتى على المعارضين العراقيين من الذين عاشوا وكانوا يسكنون في مدن العالم المختلفة ولم ينالوا من عذابات السجون أو التعذيب الجسدي والنفسي كأقرانهم الآخرين، لكنهم بعد أن تجمعوا في وكر الاحتلال الأميركي ومنطقته المحمية، لم يقدموا مشروعا قابلا للحياة، بل أكدوا أنهم مكبلون بأصفاد وأغلال شخصياتهم ومعاناتهم من تبعيتهم سواء لتاريخ طويل من العمالة لأجهزة المخابرات الأميركية، أو لمرجعيات سياسية دينية في نظام ولاية الفقيه الإيراني، أو لأولياء النعم خارج أسوار الوطن.
حملوا معهم فرصة الانتشاء بالسلطة فقدموا النموذج الأسوأ في الحكم، تلازمهم عقدة نقص كبيرة غائرة في أعماقهم، وهي أنهم لم يكونوا ثوارا ولم ينجحوا أبدا في الوصول إلى السلطة إلا مع عار احتلال العراق وإفرازاته. صفة الخيانة العظمى لازمة لم يتبرأوا منها أو يخجلوا من فعلتها، بل تفاخروا بها فتجذرت في نفوسهم وسلوكهم عند إدارة مقدرات العراق طيلة سنوات أوصلتنا إلى ما نحن عليه من انحطاط شامل في الاقتصاد والتربية والاجتماع، والسياسة طبعا.
اعتادت أعداد من العراقيين تنظيم التظاهرات أيام العطل، وتوالت الهتافات بالإصلاح وتعكزوا مرة على مرجعية دينية، ومرة على شخصية سياسية قاموا بتفويضها شعبيا، وهم، أي الجماهير، على علم مسبق بأن رئيس ما يعرف بمجلس الوزراء ما هو إلا حلقة ضعيفة داخل تنظيم لحزب سياسي يطالب المتظاهرون برأس زعيمه أو تحويله إلى القضاء الذي، هو الآخر، جزء من معضلة الحكم المتكئ على الشكل الديمقراطي وفصل السلطات الظاهري. لكن الحقيقة أن أي رهان على الإصلاح سيصطدم بجدار عزل عنصري وطائفي بغيض تم التأسيس له وتغذيته كما في أبشع نظم العنصرية في العالم.
يقال إن السياسة بلا مشاعر، لكننا تابعنا الدموع في عيون قادة أوروبا وهم يتلمّسون جراح شعوبهم عقب حدث 13 نوفمبر بباريس أو الثلاثاء الدامي في بروكسل، وكيف تلقوا بحزن عظيم وإجراءات غير مسبوقة وتعاون ملزمين عليه نتيجة المتغيّرات في الواقع الأمني والحياتي، وارتفعت الأسئلة الملحة على إمكانيات القوى الأمنية وخططها، والاستعدادات الفاعلة للتصدي أو القبول بالأمر الواقع، والاعتياد على معايشة أقدار التطرف والمداخلات في بيئة تحترم القانون والتعايش بين المجموعات البشرية الوافدة من ثقافات متعددة.
تحت كل الانتقادات لا يمكن خلق مقاربة بين ردود فعل الحكومات الأوروبية وبين نظام سياسي أو حزب حاكم في العراق، فأهلنا لا يدرون أين يُولّوا وجوههم لحل مشاكلهم المستعصية الضاربة في جذور حياتهم، وبما يندرج بتصنيفه القانوني تحت بند ارتكاب جريمة الإبادة ضد مجموعات بشرية تم خلق الظروف المناسبة لإلحاق أكبر ضرر بها من دون أن ينال مرتكبوها مقابل أفعالهم الإدانة أو توجيه التهم أو محاسبتهم كمجرمي حرب.
بعد مرور ما يقارب 14 عاما على احتلال العراق، مطلوب من العراقيين كشعب أن يقدسوا معايير العملية السياسية التي أدارها المحتل وسلمها، طواعية، إلى حاشية ولي الفقيه الإيراني، كهبة أو هدية مقابل مخططات وأهداف رسم واقع المنطقة.
الإبادة متحققة الشروط قانونيا ووفق المعاهدات الدولية والتجارب السابقة للشعوب، ليس في التاريخ البعيد نسبيا كمجازر وإبادات الهنود الحمر، لكنها تحيا في وجدان الإنسانية المعاصر كصربيا أو رواندا، وما جاءت به العملية السياسية لحكومات ما بعد الاحتلال تقترب من أفعال المافيات وتجار الدم عندما هيأوا المناخات لتفشي الكراهية وشحذها عبر الطقوس الدينية المبالغ فيها وشعارات الانتقام التأريخي وتحقير الآخر وخلق ردود الفعل الداعمة للاستهداف المباشر وغير المباشر، واستغلال السلطة للترويج للعنف، وتأسيس قنوات إعلامية حكومية وخاصة لزرع العداء بين أبناء الشعب، وتفعيل المحاصصة الطائفية بين المذاهب لأن تاريخهم الشخصي والعقائدي والمعرفي يوفر لهم إقناع أكبر عدد من الناس البسطاء، لما لكلمة المذهب من بريق إعلامي أو سياسي يضغط على صناديق الانتخاب، أو للحصول على الدعم والتأييد لتنفيذ انفعالهم السياسي والنفسي.
من أوصل شعبا مسالما مثل شعب العراق إلى القتل على الهوية أو القتل الانتقائي على أسماء لها رموز تاريخية عربية ودينية، ألا تجب محاكمته على شحذه العنف بين المجموعات المتعايشة، وإفساح المجال لتشكيل المجاميع المسلحة المنفلتة أو المنضوية تحت إمرة زعماء العمل السياسي والحجة قائمة في حماية العملية السياسية.
إذا كان من إصلاح فلا بد من إعادة الوعي وإعلان التوبة من هذه العملية ومصالحة الشعب بإعادة الوئام المجتمعي، وتحويل السياسيين الفاسدين إلى قضاء عراقي غير مسيس يعيد الثقة في القانون ودوره الرادع في صيانة وحماية حياة الناس بروح العدالة والمساواة. ما يجري من تظاهرات واعتصامات وركوب موجات المد والجزر من رجال دين، أو حتى من السياسيين أنفسهم، يمثل حجم المفارقة في الوعي والاستلاب الحاصل من أبواق الكراهية ومعامل إنتاج التفرقة وتفريخ الأزمات في المنطقة الخضراء.
كل ما يجري في التظاهرات سوف لن يُنتج لنا حزبا جماهيريا أو حركة سياسية شعبوية يلتف حولها الناس، إنما مداورة في الشخوص ومناورة في الاجتماعات لتجاوز فترة التشنجات الحالية التي تغلب عليها المخاوف من انهيار حاسم في الاقتصاد، وكأنها إعادة ترتيب الفوضى وشحن بطارية الإشكالات الكبرى لمزيد من مشاغلة الشعب ومفاجأته بأمراض شائكة مستعصية لتركه في دوامة الحروب ضد الإرهاب، أو حرب الأخ مع أخيه، أو ضد الفقر والجوع.
إنهم يلجأون إلى الشعب لحل مشاكلهم السياسية وليس العكس، والحقائق ماثلة أمامنا في توقف المشاريع وعجلة التنمية وضياع المال العام وهدر الدم دون رادع اجتماعي أو قانوني، لأن العقل الجمعي تم استهلاكه في مقدسات السلطة الفاقدة لأبسط مشاعر الإحساس بالحكم الرشيد، أو حماية كرامات الأفراد في حاضرهم أو غدهم.
وقائع تدمي القلب لما حصل في العراق وحالات انتحار غير مسبوقة للخلاص من الحياة وفقدان الرغبة في العيش، ويتحدثون عن الخط الأحمر للعملية السياسية سيئة السمعة، ومجاعات في مدننا الكريمة المحاصرة، وقصف عشوائي ذهب وسيذهب ضحيته دم بريء. ما يزال هناك من شعبنا من يؤمن بأن أحزاب المخابرات الأجنبية أو دعاة ولي الفقيه الإيراني ستصنع التغيير وتعيد للعراق صورته الأولى الملونة الزاهية.
الإصلاح، أو بالأحرى التغيير، لن يحصل إلا عندما تدرك الجماهير أنها ليست مقتطفات أو عبارات في كتاب حكم مختطف من قبل دعاة الإبادة، وأنها، أي الجماهير، مرجعية إنقاذ تاريخي، تعيد اختراع ذاتها كالصرخة المدوية.. هكذا أيها المؤمنون تكون إرادة الإله الحق فينا.