العرب - في خطابهم السياسي يبدأ الإسلاميون بالقول إن المشكلة هي مشكلة ثقافية، لكنهم في ممارساتهم العملية ينتهون إلى خلاصة معاكسة، وهي أن الثقافة هي المشكلة. ومختلف الحركات الإسلامية في العالم العربي ينتفخ لديها الجانب التنظيري في ما يتعلق بتشخيص عناصر المشكلة الثقافية كما تفهمها، غير أن رؤيتها الثقافية هي جزء من الرؤية السياسية لديها، بحيث لا تجد فصلا بين الاثنتين، وهذا ما يجعل الإسلاميين حين يصلون إلى الحكم يفكرون في مصادرة الشأن الثقافي وطرد الثقافة من المجال العام؛ بحيث يصبح الأمر بين خيارين، إما خروج الثقافة من هذا المجال، أو التبعية للسلطة السياسية.
مناسبة هذا الكلام هي التصريحات الغريبة التي أطلقها رئيس الحكومة المغربية عبدالإله بن كيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية الإسلامي، خلال هذا الأسبوع أثناء إشرافه على توقيع اتفاقيات تهمّ القطاعات المهنية في المغرب. فقد قال بن كيران إن البلاد ليست بحاجة إلى مثقفين أو فلاسفة وشعراء، بقدر حاجتها إلى تقنيين. وكان وزير التعليم العالي الحسن الداودي، من الحزب نفسه، قد صرح قبل أشهر هو الآخر بأن شعبة الأدب العربي في الجامعات المغربية غير ذات أهمية، ومن الأفضل إلغاؤها لصالح الشعب العلمية.
قد تبدو هذه المواقف غريبة لدى الكثيرين، لكن بتفحص منظور الإسلاميين للمسألة الثقافية تصبح القضية مفهومة في إطارها الخاص. فالإسلاميون لا يعيشون حالة مصالحة حقيقية مع المسألة الثقافية، والقضية عندهم تبدأ بالنقد العدمي للحالة الثقافية وتنتهي عند تنظيم داعش بالهجوم على كل ما ينتسب إلى الفن والإبداع. فإذا كانت الثقافة ترتبط بالحرية والنقد وطرح التساؤلات، فإن الحرية والتساؤل هما العدو الرئيس للجماعات الإسلامية، التي تنشأ منذ اليوم الأول وعلى لسانها الحقيقة المطلقة التي تريد أن يمشي الناس وراءها.
عاش الإسلاميون حالة تخبط واضحة مع موضوع الفكر والثقافة منذ عقود، فقد سيطر عليهم هاجس التأصيل كشعار سطحي، ومن ثم انبروا إلى مهاجمة الفكر والثقافة الموجودين مبشرين بالبديل. أرادوا أن يمسحوا الطاولة قبل أن يؤسسوا للبديل الثقافي الذي بشروا له، لكنهم ظلوا يتخبطون في شعارات جوفاء لم تعمل سوى على تدمير الثقافة. فخلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي انتشرت بعض المفاهيم التي سار وراءها أبناء الحركة الإسلامية، مثل الفن الإسلامي والأدب الإسلامي والمسرح الإسلامي، لكن الإنتاجات التي ظهرت خلال تلك الفترة عكست حالة من الأزمة العميقة التي تضرب جسم هذه الجماعات الدينية، بحيث بقيت تلك الإنتاجات في أدنى سلم الإبداع المتعارف عليه عالميا. الظاهرة التي تستحق الانتباه أن الإسلاميين اليوم يتهافتون على الأدب العالمي المترجم وعلى الإبداع الذي يصدر عن أدباء عرب من خارج التيارات الدينية، بل من المخاصمين لها، لأن هذه الجماعات عجزت عن أن توجد لهم البديل المبشر له، ولأن إبداعها ظل غارقا في السطحية والنزعة التبشيرية وفقر الخيال.
على نفس الدرب ابتكر بعض الباحثين المحسوبين على التيارات الإسلامية مفاهيم فكرية جديدة كأسلمة المعرفة، منطلقين من انتقاد المدارس الفكرية السائدة، لكن الإنتاجات التي وضعت في هذا الشق ظلت تعاني أزمة بنيوية عميقة، طابعها الرد على تلك المدارس دون التأسيس، وبقيت تراوح بين ردّ الفعل وبين محاولة تلمّس الطريق.
يفسر لنا الهجوم على الثقافة والإبداع والفن لدى الإسلاميين جانبا من جوانب الفشل السياسي في ممارساتهم العملية وهم في السلطة، بل وكذلك فشلهم في السلطة التنظيمية داخل تلك الجماعات قبل الوصول إلى سلطة الدولة. فبالنظر إلى حالة العداء للثقافة والفكر يفتقرون إلى رؤية ثقافية للإصلاح والتغيير، بحيث تصبح تلك الرؤية لديهم مجرد رؤية تقنية تتعامل مع المجتمع وكأنه كائنات مشوهة أو رؤوس فارغة مفتوحة من الأعلى يمكن حشوها بأي شيء، ولذلك ليس غريبا أن يكون عدوهم الرئيس هو حرية البحث العلمي والإبداع الذي يطرق الأسئلة المؤرقة ومحاكمة المثقفين والمفكرين.
لا يعني هذا أن الساحة الثقافية في العالم العربي بخير، هذا إن لم نقل إن العقلية الإسلامية ناتجة في جزء كبير منها عن المناخ الثقافي السائد، ولكن المقصود أن الإسلاميين، الذين يرفعون عقيرتهم بالصراخ عن الأزمة الثقافية والمعرفية، هم أول من يكرس التخلف في المجال الثقافي، فهم يجعلون الثقافة خادما للسياسة، ومن ثم يزيدون في تعميق مشكلتنا مع تبعية الثقافي للسياسي.