العرب - يقام في المغرب نحو 97 مهرجانا وتظاهرة سينمائية محلية ودولية، منها 67 مهرجانا تحصلت على دعم مالي من الدولة، وهو عدد يفوق عدد كل مهرجانات السينما التي تقام في العالم العربي بأسره. هذا العدد الكبير من المهرجانات معناه ببساطة أن مهرجانا ينتهي لكي يبدأ مهرجان آخر، وتتقاطع المهرجانات وتتداخل، بحيث يمكن العثور في كل وقت على مهرجان سينمائي أو أكثر في المغرب.
هذا التعدد مثار حسد من جانب الكثير من نقاد السينما خارج المغرب، فهم يرون أن نقاد السينما في المغرب أسعد حظا، لأنهم لا يكفون عن الانتقال من مهرجان إلى آخر، ويشاركون في تقديم الأفلام والندوات والمناقشات والمؤتمرات وتحرير المطبوعات، أي أنهم يمارسون المهنة بشكل عملي ويدفعونها إلى الأمام، ولا بد أيضا أنهم يحصلون على مقابل مادي جيد على ما يبذلونه من جهود، غير أن الحقيقة خلاف ذلك تماما.
صحيح أن مهرجانات السينما في المغرب لا يمكنها أن تستمر من دون نقاد السينما، غير أن أصدقائي النقاد، أعضاء الجمعية المغربية للنقد السينمائي التي يرأسها الصديق خليل الدمون، ابتكروا تعبيرا طريفا يعبر عن حال نقاد السينما المغاربة في مهرجانات المغرب هو “النقد مقابل الغذاء”، وهو مقتبس بالطبع من الاسم الذي أطلق على برنامج الأمم المتحدة سيء السمعة “النفط مقابل الطعام”، تيمنا ببرنامج الأمم المتحدة القديم لبيع نفط العراق مقابل تزويده باحتياجاته من المواد الغذائية.
يجوب نقاد السينما المهرجانات السينمائية في العالم العربي، وفي العالم الخارجي، يعملون ويسهرون الليالي، يقدمون الأبحاث والدراسات، ينشطون المؤتمرات ويقترحون الأفلام، مقابل أن يحظوا بـ”شرف الحضور”، أو، في أفضل الأحوال، الحصول على وجبات من الطعام، وهي ملهاة ومأساة معا، ممتدتان ومستمرتان!
ومع ذلك، فنقاد السينما مضطرون إلى متابعة مهرجانات السينما للعثور على مادة جديدة لكتاباتهم، واكتشاف أفلام جديدة ومواهب سينمائية جديدة، يكتبون عنها ويقدمونها لقرائهم، كما يهمهم أيضا اكتشاف جوانب القصور الكامنة في تعامل مؤسسات الدولة مع السينما، وفي تراجع دور الثقافة السينمائية بشكل فاضح، بعد انحسار تجربة نوادي السينما وانتشار السطو على الأفلام عن طريق شبكة الإنترنت، مما جعل معظم المشاهدين حتى من بين الشباب الذي لم يخط بعد خطواته الأولى على طريق المشاهدة السينمائية الصحيحة، يكتبون انطباعاتهم السريعة باللهجات الدارجة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويبدو أن لما يكتبونه تأثيرا على الكثير من المتلهفين على قراءة “الكبسولات” السريعة، بدلا من بذل جهد في قراءة مقالات النقد السينمائي الأكثر عمقا.
المشكلة الأخرى أن قنوات التلفزيون العربية أيضا، سواء الحكومية أو الخاصة، على استعداد لإنفاق الكثير على إنتاج البرامج الاستهلاكية السطحية، التي تظهر فيها الراقصات ومن يطلق عليهن “الفنانات” والفنانين، يلوكون الكلمات الفارغة، وهي برامج تمتلئ عادة باستعراض السيقان والأزياء، وتتناول الأسرار الشخصية في حياة “الفنانين”.
وفي المقابل، فهذه القنوات نفسها ليست على استعداد لدفع مليم واحد لنقاد السينما الذين تستضيفهم في برامجها بدعوى عدم وجود ميزانية، وكثيرا ما تقول إن ظهور الناقد على الشاشة الصغيرة يتيح له نوعا من “الدعاية”، وهو تصور مضحك بالطبع، لأن الناقد الجاد، الذي لا يمارس النقد السينمائي في النهار، ثم يكتب سيناريوهات الأفلام الاستهلاكية في الليل، لا يهمه “التسويق” فهو لا ينتظر أن يتصل به منتجو الأفلام، بل إن كتابة النقد بشكل عام، تعتبر مهنة ملعونة.
فعند الكثيرين “أنت ناقد إذن أنت حاقد”، أو “أنت تنقد إذن أنت غاضب”، وهي تصورات تعكس أزمة حقيقية كامنة في الثقافة العربية التي يكاد يغيب فيها دور النقد العلمي الموضوعي، ويكثر فيها تبادل الاتهامات و”الردح” السياسي، وهي محنة ما بعدها محنة! وقد سبق أن قال نورثروب فراي كلمته الشهيرة “هناك سبب يجعل النقد ضروريا، هو أن النقد قادر على الكلام، بينما الفنون كلها خرساء!”.