العرب - من حسن حظي أن عثرت، مصادفة منذ نحو 35 عاما، على نسخة قديمة من كتاب “اشتراكية الإسلام”، وقد كتبه أول مراقب عام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا مصطفى السباعي، في ظل المد الاشتراكي. اختفى الكتاب، ولم تكن من الحكمة إعادة طباعته بعد اقتران الاشتراكية بالإلحاد في الخطاب الإسلامي الساداتي، انتقاما من ميراث جمال عبدالناصر، واستجابة لانفتاح اقتصادي عاصف، دفع بعض حملة لقب “المفكر الإسلامي” إلى إعادة النظر في “اجتهادات” سابقة، في انقلاب لا مراجعة. ومن المفارقات أو المصادفات أن كتاب السباعي الذي صدرت طبعته الأولى عام 1959 طبع من جديد في مصر أيضا عام 2012، في ظل الحلم بالعدل والحرية عقب ثورة مغدورة.
يقدم الكتاب تصورا إسلاميا للاشتراكية، استشهادا بنصوص دينية تشير إلى العدالة الاجتماعية، ومساواة في الحقوق الاقتصادية، ولكن الكتاب يقدم أيضا درسا لمن يستدعي الدين سلاحا للدفاع عن توجه سياسي، أو تبرير أيديولوجية تكون في إحدى المراحل دينا للدولة، وفي مرحلة تالية بابا إلى الجحيم، حتى يحار المسلم ولا يدري أيهما الإسلام بحق: الذي ينتهج الاشتراكية؟ أم ذلك الذي ينتهج التوجه الرأسمالي؟ ولكل فريق أسانيد يبرر بها خطابه، ويستدل بها على ما ينتهي إليه من نتائج، حتى يصبح المشهد حرب نصوص.
ويقول محمد الغزالي في كتابه “الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر” إن السباعي ألف كتابه لصرف الشباب عن الشيوعية، وإنه ندم على عنوان الكتاب، وإن الاشتراكيين العرب يعنيهم مصطلح الاشتراكية، ولا يبالون بالعقائد والعبادات، وإنهم “يمضون في طريقهم دون إسلام أو آخرة أو خُلُق. ومن هنا وضع الله الشؤم في سياساتهم الاقتصادية فما دسوا أصابعهم في خضراء إلا جفت ولا دخلوا بلدا إلا نعق بين أيديهم البوم… أفقروا الأغنياء ولم يغنوا الفقراء، وتلك حدود اشتراكيتهم”. وفي كتابه “الإسلام والمناهج الاشتراكية” يقول الغزالي إن الحضارة الأوروبية “هي والشيوعية صنوان في الكفر والإلحاد!”. وفي كتابه “هموم داعية” يتساءل “وهل انتشرت الشيوعية إلا مع هذه الخلخلة التي أحدثها العصيان لأوامر الله، واعتداء حدوده؟”. وفي كتابه “الحق المر” يتناول في فصل عنوانه “الماركسية قمة الإلحاد” آثار ما يراه استعمارا ثقافيا، ويخلص إلى أن “قمة الإلحاد في ما أراه أن تتألف أحزاب ماركسية علانية، وأن تصل إلى الحكم لتفرض على الجماهير مبدأ “لا إله والحياة مادة”. إن هذا ارتداد صراح وقاح”. أما كتابه “الإسلام في وجه الزحف الأحمر” فهو تلخيص لذلك كله.
بعد مقابلة واحدة مع الشيخ الغزالي، أعقبتها اتصالات تليفونية متباعدة، منذ كنت طالبا، أثق بأنه لم يكن مدفوعا من أحد، ولا تطوّعَ بخدمة حاكم، بل اجتهد انطلاقا مما تصور أنه صحيح الدين. أما غيره، وهم كثيرون ينتسبون إلى الأزهر، فيسعون إلى استنطاق الدين، وتأويل نصوصه لدعم وجهة النظر الرسمية في قضايا حمالة أوجه. سلوك يسيء إلى المطلق إذ يلقى به في معركة النسبي، وبتغير النسبي بحكم بشريته سيلزم إعادة النظر في ثوابت تتخذ من الحلال والحرام معيارا، أما البشري فقاعدته الصواب والخطأ. في الفقه الديني تصلح ثنائية الحق والباطل، الحلال والحرام. وفي السياسة تصلح ثنائية الصواب والخطأ. الصواب هنا ربما يكون خطأ هناك، وما يكون هنا والآن خطأ يصير في زمن آخر هنا أيضا صوابا. قبل عشرين عاما صدرت فتاوى تحرم التعامل بالعملات الأجنبية خارج البنوك، حين كان ذلك جريمة يعاقب عليها القانون، والآن توجد شركات للصرافة، معلنة ومشهرة، ويحميها القانون، ولا نتصور الآن استدعاء فتوى دينية قديمة تجاوزها الواقع الاقتصادي.
يسهل على الفقيه أن يعفي نفسه من الوقوع في شبهة ممالأة الحاكم، استنادا إلى أن المتغيرات هي مصالح مرسلة لم يرد بشأنها حكم، ولا دليل على حلّ لها أو حرمة، فهي تسري منعا أو إباحة مع ما يحقق النفع العام، أو يدفع إلى الضرر، والمصالح “تتجدد بتجدد أحوال الناس، وتتطور باختلاف البيئات، وتشريع الحكم قد يجلب نفعا في زمن وضررا في آخر، وفي الزمن الواحد قد يجلب الحكم نفعا في بيئة ويجلب ضررا في بيئة آخرى”. (عبدالوهاب خلاف: علم أصول الفقه).
ومن المساخر أن يتماهى المكلف بالإفتاء مع التوجه الرسمي؛ ففي عصر حسني مبارك، أفتى علي جمعة مفتي مصر آنذاك بحرمة الهجرة السرية، بحجة تعريض النفس للأذى، ولم يؤلمه الفساد السياسي، والتفاوت الاقتصادي الحرام، وتكريس مظاهر التوريث بأدوات قاهرة، وغير ذلك من دوافع كفر المواطنين بالوطن، والرغبة في الهرب منه. كما أفتى بتحريم حرق قش الأرز، واعتبره، الحرق لا القش، من الكبائر. جمعة الذي تقاعد لا يريد أن يتقاعد، بل يحرض السلطة على الإخوان والمعارضين، بخطاب يخلو من وقار العلماء، وعلى خطاه يمشي جمعة الآخر، وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، إذ صرح بأن الله ربط بين مصر والحجاز في سورة “التين” “والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين”، وأوضح أن البلد الأمين “مكة المكرمة، وبذلك ربط سبحانه وتعالى بين البقعتين المباركتين طور سيناء وبلد الله الحرام”. وهو تأويل لم يخطر ببال أحد في الستينات حين توترت العلاقات بين البلدين، وأصدرت صحيفة “عكاظ” عددا خاصا يعلوه عنوان “عبدالناصر كافر بالإجماع”، ولا ندري أي إجماع؟ وفي أي بلد؟ فهل بقي أحد على قيد الحياة ممن كفروا عبدالناصر ليجيب عن مصير ذلك الإجماع؟ وهل كان إجماع مجتهدين؟ أم حكما نهائيا “شرعيا” على عبدالناصر بالكفر؟
وفي ظل غبار متصاعد منذ إثارة قضية ملكية جزيرتيْ تيران وصنافير المصريتين، لم يكن أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر مضطرا للإسهام بفتوى دينية في قضية سياسية حدودية خلافية. لم يدعْ الشيخ ما لقيصر لقيصر، بل تبنى وجهة النظر الرسمية، في مقال عنوانه “الجزيرتان رؤية فقهية”، واعتبر الجزيرتين “وديعة” يجب ردها إلى أصحابها أو ورثتها. لم يتواضع بالقول إنه يجتهد، وإن رأيه يحتمل الخطأ والصواب، ولكنه زايد على أهل الحجاز، واصفا كلامه بأنه وجهة فقهية إسلامية. لم يتحمس الشيخ لدماء ورفات شهداء مصريين في الجزيرة، ولم يغضب لقتل أبرياء قتلتهم الشرطة في الميادين، أو قتل 38 مواطنا في سيارة الترحيلات، ربما لانتمائهم إلى الإخوان.