العرب - ليس سرّا من حرّر عدن صيف العام الماضي. كان تحرير عدن وإخراجها من تحت سيطرة الحوثيين، أي “أنصار الله”، خطوة أولى من أجل قطع الطريق على المشروع الإيراني في هذا البلد. تحرّرت عدن استنادا إلى خطة عسكرية متكاملة لا تستطيع تنفيذها إلا الجيوش الحديثة التي تتقن التنسيق بين قوات جوية وقوات برّية وعملية إنزال بحري. تحررت عدن بفضل “عاصفة الصحراء” من الجو، وجهود إماراتية على الأرض. كان الهدف منع سقوط عاصمة الجنوب اليمني في يد قوى معادية في ظل استفادة “أنصار الله” من الدعم الذي قدمته لهم القوات التي لا تزال تحت سيطرة الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
مع تحرير المكلّا عاصمة محافظة حضرموت، وهي أكبر المحافظات اليمنية مساحة، يتأكّد أنّ “عاصفة الحزم” تمثّل حربا على الإرهاب بكل أشكاله من أجل حماية الأمن الخليجي. إنّها حرب ذات طابع دفاعي، كلّ خطوة فيها مدروسة جيّدا بأدق التفاصيل
.
لعبت القوات الإماراتية دورا محوريا في تحرير عدن من “أنصار الله” بغطاء من سلاح الجوّ التابع لقوى التحالف العربي والإسلامي الذي يخوض معارك “عاصفة الحزم”.بعد أقلّ من سنة على معركة عدن، لعبت القوات الخاصة السعودية والإماراتية الدور المطلوب لاستعادة ميناء المكلا من “القاعدة”. كلّ ما يمكن قوله، أنّه في حالتيْ عدن والمكلّا، الإرهاب واحد. لا فارق بين إرهاب وآخر، أكان هذا الإرهاب مدعوما من إيران، أم كان من النوع الذي يمارسه تنظيم “القاعدة” الذي راح ينتشر في أنحاء مختلفة من اليمن منذ تسعينات القرن الماضي برعاية من الإخوان المسلمين وأجنحة في النظام القائم.
هناك إرهاب مارسه “أنصار الله” الذين استغلّوا في أيلول – سبتمبر 2014 حالة الفراغ الناجمة عن سقوط الصيغة التي حكمت اليمن الشمالي انطلاقا من صنعاء منذ عشرات السنين، واليمن كلّه منذ العام 1990 تاريخ تحقيق الوحدة. في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014، استكمل الحوثيون سيطرتهم على العاصمة. راهن هذا الإرهاب الذي مارسوه طويلا على التفريق بين المذهبيْن الزيدي والشافعي في بلد لم يعرف يوما أيّ تمييز بين المذاهب.هناك أيضا، إرهاب ذو طابع سنّي راح يتغلغل في كلّ اليمن، خصوصا في مرحلة ما بعد انتهاء حرب الانفصال صيف العام 1994 باستعادة الوحدة وفشل الحزب الاشتراكي في تحقيق هدفه المتمثّل في استعادة دولة الجنوب المستقلّة.
كان الحزب الاشتراكي يشكّل عنصر توازن في اليمن. افتقد اليمن لهذا العنصر في مرحلة ما بعد حرب صيف 1994. الأخطر من ذلك النتائج التي ترتبت على صعود الحركات الإسلامية المتطرفة في غياب الحزب الاشتراكي الذي سعى إلى إقامة دولة مدنية بعد تحقيق الوحدة.
ما كشفته عملية تحرير المكلّا أنّ هناك وعيا تاما لدى القيادتيْن في السعودية والإمارات للتعقيدات اليمنية، خصوصا بعدما سعت “القاعدة”، وما شابهها، إلى الاستفادة من الفراغ الناجم عن ضعف الشرعية اليمنية من جهة، ومن شبكة العلاقات التي أقامتها في المحافظات الجنوبية والوسطى في البلد من جهة أخرى. لم يكن وصول تنظيم “القاعدة” إلى المكلّا وسيطرته على المدينة قبل عام تطورا مفاجئا. هذا التنظيم الإرهابي موجود في حضرموت منذ سنوات عدّة، كما هو موجود في شبوه وأبين وعدن.
كانت هناك قوى مشاركة في السلطة أو في الأجهزة الأمنية متواطئة مع “القاعدة” في عهد علي عبدالله صالح. كان هناك طوال السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عهد الرئيس السابق صراع بين مؤيدي المعاهد الدينية، بكلّ ما تمثّله من تخلّف، ومعارضيها. كان هناك حتّى خلاف بين الحكومة والإخوان المسلمين في شأن مستقبل “جامعة الإيمان” في صنعاء. شكا العالم من هذه الجامعة التي كانت تخرّج متطرّفين من كلّ الجنسيات والتي كان على رأسها الشيخ عبدالمجيد الزنداني الذي روّج لخرافات عدة صدّقها كثيرون. كان من بين تلك الخرافات النجاح في إنتاج دواء لمرض فقدان المناعة (إيدز) وآخر للسرطان!
زادت نقمة العالم على “جامعة الإيمان” بعد تفجير المدمرة الأميركية “كول” في ميناء عدن في تشرين الأوّل – أكتوبر 2000. تبيّن لاحقا كم هو كبير حجم اختراق “القاعدة” للأجهزة الأمنية اليمنية، خصوصا أن التفجير كان بأوامر مباشرة من أسامة بن لادن، في رسالة موثّقة أرسلها إلى شخص معيّن. كان هناك أيضا أشخاص متهمون بالإرهاب، شاركوا في عملية “كول” بعدما وجدوا من يطلقهم من السجن في ظروف غامضة، وذلك قبل أسابيع من تفجير المدمّرة.
تعني استعادة المكلّا أمرين. الأوّل أنّ هناك جيوشا معدّة جيدا للحرب تشارك في “عملية الحزم”. هناك جيش إماراتي محترف يستطيع تنفيذ عمليات عسكرية في غاية التعقيد. هناك، بكلّ بساطة، مؤسسة عسكرية بكلّ معنى الكلمة لا تخشى تقديم تضحيات، كما في أيّ دولة حديثة. هناك دولة عصرية مختلفة تعرف تماما أن الجيوش الحقيقية، هي تلك التي لا تكتفي بتقديم عروض عسكرية في مناسبات معيّنة، لا تبنى الجيوش المحترفة بين ليلة وضحاها، بل إنّ إنشاء مثل هذه الجيوش يحتاج إلى جهود دؤوبة بشكل يومي.
الأمر الثاني أنّ “عاصفة الحزم” ليست مجرّد عملية عسكرية. بل هي عملية سياسية أيضا تأخذ في الاعتبار أن الإرهاب في اليمن ليس مقتصرا على ممارسات الحوثيين الطامحين إلى السلطة بأيّ ثمن كان. هناك أيضا “القاعدة” التي ضربت في عدن وفي أبين وحضرموت وشبوه ومأرب وفي أماكن عدّة أخرى، كما سيطرت لمدّة سنة سيطرة كاملة على المكلّا حيث مطار وميناء.
تدور هذه الأحداث في وقت هناك عملية سياسية في الكويت تشرف عليها الأمم المتّحدة. هذه العملية لا يمكن أن تنجح بمعزل عن متابعة الحرب على “القاعدة” ووضع “أنصار الله” في حجمهم الحقيقي. وقد بدأوا في أخذ حجمهم الحقيقي منذ اليوم الذي خرجوا فيه من عدن ولم يعد في إمكانهم السيطرة على مضيق باب المندب الاستراتيجي. كذلك، أخذ الوضع الداخلي في اليمن بعدا جديدا بعد التظاهرة الحاشدة التي نظّمها علي عبدالله صالح في صنعاء يوم السادس والعشرين من آذار – مارس الماضي، مثبتا أن صنعاء ليست تحت سيطرة الحوثيين بأي شكل من الأشكال.
لم تسد “عاصفة الحزم” المستمرّة الطريق على الحلول السياسية في اليمن. على العكس من ذلك، أعطت هذه الحلول بعدا جديدا خلاصته أن اليمن في حاجة إلى صيغة جديدة تتضمن احتواء لمطامح الحوثيين في الشمال وللخطر الذي تمثّله “القاعدة” في الوسط والجنوب. لا هوادة في الحرب على “القاعدة”، لكن هناك استعدادا لأخذ الظلم التاريخي الذي تعرّض له الحوثيون في الاعتبار. لا يختلف اثنان على أن الحوثيين مكون من مكونات اليمن، لكنّهم ليسوا الميليشيا الإيرانية التي تسيطر على كلّ اليمن.
جاء تحرير المكلّا، وهو تطوّر في غاية الأهمّية، ليؤكد أن “عاصفة الحزم” ليست مجرّد حدث عابر، بمقدار ما أنّها حرب على الإرهاب بكلّ أنواعه. ليس اليمن، ولا يمكن أن يكون، قاعدة لـ”القاعدة”. وليس اليمن أيضا مستعمرة إيرانية، ولا يمكن أن يكون ذلك، لا أكثر ولا أقلّ.