العرب - كانت نقطة التحوّل استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها على شعبه. كان ذلك صيف العام 2013. لم يتحرّك العالم بعدما تراجع باراك أوباما عن مواقفه السابقة. تبيّن أن كلّ كلامه عن “خطوط حمر” رسمها للنظام السوري كلام بكلام. منذ صيف العام 2013، استعاض بشّار الأسد عن الأسلحة الكيميائية. تحوّل إلى البراميل المتفجّرة يلقيها على السوريين بدعم روسي وإيراني. تدفع حلب، بكل بساطة، ثمن هذا التحوّل الأميركي الذي كشف أن النظام السوري يتمتّع بحماية إسرائيلية وذلك منذ اليوم الأوّل الذي أصبح فيه حافظ الأسد وزيرا للدفاع في العام 1966
.
بات كلّ ما يمكن قوله، أن لا تفسير منطقيا آخر لما يجري في حلب سوى أن العالم، بما في ذلك تركيا، فقد أي شعور بالإنسانية وأنّ في واشنطن إدارة تصرّ على التفرّج على ما يدور في العالم، خصوصا في سوريا، وكأنّ الهدف الوحيد لباراك أوباما التأكد من أنّه لن تقوم لهذا البلد قيامة في يوم من الأيّام.
مرعب كلّ هذا الصمت عن المأساة التي تشهدها حلب. مرعب كيف أن تركيا، التي تعتبر حلب المدينة أقرب ما تكون إلى إحدى المدن التركية، تتفرّج على المأساة. لا تجرؤ تركيا، أقله إلى الآن، على الإقدام على أي خطوة توحي بأنّ المجزرة في حقّ أهل المدينة لا يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية.
هناك نظام مرفوض من الأكثرية الساحقة من شعبه. يصرّ هذا النظام على شن حرب إبادة على هذا الشعب لمجرّد أنّه طالب بحد أدنى من الكرامة. من الصعب تصوّر كيف أن العالم، على رأسه الولايات المتحدة، يتفرّج على المشهد من دون أن ينبس ببنت شفة. ولكن ما العمل عندما يكون على رأس القوة العظمى الوحيدة في العالم رجل من طينة باراك أوباما استسلم باكرا للقيصر الروسي فلاديمير بوتين وأوكل إليه مهمّة إدارة الحرب على الشعب السوري بالتنسيق مع إيران.
لا يعود ردّ فعل العالم على مأساة حلب مستغربا عندما تستعيد الذاكرة أنّه سبق لحلب أن تعرّضت في الماضي لما تعرّضت له مع مدن ومناطق سورية ولبنانية عدة.
سبق لحلب أن تعرّضت لحملة مماثلة في ثمانينات القرن الماضي. ترافق ذلك مع مجزرة حماة في شباط – فبراير من العام 1982. ليس معروفا إلى الآن كم قتل النظام من أهل حماة. لكنّ الرقم الأقرب إلى الحقيقة هو ثلاثون ألف مواطن سوري.
بالنسبة إلى النظام السوري، لم يتغيّر شيء في العالم. لا يزال العالم على استعداد للتغاضي عن مجازره لأسباب يصعب إيجاد تفسير منطقيّ لها باستثناء وجود أوباما في البيت الأبيض ووجود بوليصة تأمين له، بعدما وضع نفسه دائما في خدمة إسرائيل.
فعل ذلك منذ اليوم الأوّل الذي أصبح فيه حافظ الأسد وزيرا للدفاع في العام 1966. في تلك السنة حصل انقلاب من داخل البعث قاده في الواقع ضباط علويون أسسوا للنظام الأقلّوي القائم الذي تحوّل في عهد بشّار الأسد إلى نظام عائلي. تولّى حافظ الأسد من موقع وزير الدفاع التمهيد لتسليم الجولان في العام 1967
.
يبدو النظام معفيا من أي مساءلة من أيّ نوع لمجرّد أنّه تكفّل بتوريط جمال عبدالناصر في حرب 1967 وتخليه عن الجولان نتيجة تلك الحرب. يبدو أن النظام مازال يقبض إلى اليوم ثمن تسليم الجولان. هل من تفسير منطقي آخر لهذا التواطؤ الدولي على الشعب السوري وعلى أهل حلب بالذات؟
لا يزال العقل الذي تحكّم بالنظام منذ اليوم الأوّل للانقلاب الذي قام به حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني ـ نوفمبر 1970 وسمّاه “الحركة التصحيحية” هو العقل السائد.
يكفي استعراض ما ارتكبه النظام منذ ما قبل 1970 لتفسير هذا الصمت عنه، وذلك منذ انقلب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين ووضعهم في السجن. قتل محمد عمران في طرابلس، شمال لبنان، ولم يوجد من يحرّك ساكنا على الرغم من أن عمران يأتي من عائلة علويّة أرفع شأنا من عائلة الأسد نفسه. وضع صلاح جديد في السجن ولم يطلقه إلّا بعدما تأكّد أنّه تحوّل إلى جثة.
لا حاجة إلى تعداد الجرائم التي ارتكبها حافظ الأسد في لبنان، ثمّ ما فعله ابنه المشارك في جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وكلّ الجرائم الأخرى التي تلت تفجير موكب الحريري. لا حاجة أيضا إلى تعداد القرى المسيحية التي هجّر أهلها بغية تأليب المسيحيين على الفلسطينيين. ولا حاجة إلى تعداد ما فعله النظام في طرابلس السنّية أو بيروت نفسها أو صيدا مستخدما الفلسطينيين أحيانا، وميليشيات تابعة له مباشرة في أحيان أخرى.
أراد تدمير لبنان كلّيا إما مباشرة، وإمّا بواسطة المسلّحين الفلسطينيين. انتهى الأمر بأنّ عدد الفلسطينيين الذين قتلهم يفوق بكثير عدد الذين قتلتهم إسرائيل.
من يتمعّن بما فعله النظام السوري باللبنانيين والسوريين والفلسطينيين وصولا إلى إدخال إيران، عبر الميليشيات المذهبية التي أنشأتها، إلى قلب لبنان وقلب سوريا، لا يتفاجأ بهذا الصمت عن جرائمه المستمرّة، آخرها جريمة حلب. فعندما يقدّم نظام ما كلّ ما قدّمه لإسرائيل، لا يعود من مجال لطرح أسئلة من أيّ نوع، خصوصا في ظلّ وجود إدارة مثل إدارة باراك أوباما.
من لا يزال لديه أدنى شك في ذلك يستطيع أن يسأل كيف سمحت إسرائيل للجيش السوري باحتلال لبنان في العام 1976. فعل ذلك تحت ذريعة أنّه جاء إلى لبنان لحماية المسيحيين. هل كان ذلك ممكنا من دون الموافقة التي جاء بها هنري كيسينجر، وزير الخارجية الأميركي وقتذاك، ومن دون الضوء الأخضر الإسرائيلي الذي رافقته الخطوط الحمر التي قبل حافظ الأسد التزامها بدقة متناهية ليست بعدها دقّة؟
إلى متى تظل بوليصة التأمين الإسرائيلية معمولا بها؟ الجواب، بكلّ بساطة، أن صلاحية البوليصة صارت شبه منتهية، خصوصا بعدما عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو جلسة لمجلس الوزراء في الجولان. أعلن من هناك أن الجولان إسرائيلي “إلى الأبد”. أراد القول إن النظام الذي لم يرد يوما خروج الجولان من تحت الاحتلال نال ما يكفي من مكافآت. كلّ ما في الأمر أنّ عليه استكمال المهمّة التي وجد أصلا من أجلها. تتمثّل هذه المهمّة في تفتيت سوريا وتدمير مدنها الواحدة تلو الأخرى بشكل منهجي.
هذا نظام له مهمّة. لن يرحل نهائيا قبل إتمامها للأسف الشديد. لو لم يكن الأمر كذلك، كيف يستطيع حاكم لديه بعض العقل والحرص على سوريا وعلى شعبها الاقتناع بأنّ تدمير حلب، بعد حمص وحماة وقسم من دمشق، يمكن أن يبقيه في السلطة إلى أن يأتي اليوم الذي يرثه فيه حافظ الصغير؟