تعوّد المصريون عبر تاريخهم الحديث على أن تتحوَّل مشاعرهم الوطنية إلى انفعال وقتى وصياح «شيفونى» يعطى إحساسًا بعشق الوطن والارتباط بالأرض الطيبة، وهو أمر محمودٌ فى مظهره ولكنه لا يستقيم فى جوهره إلا بالاعتماد على تحويل تلك الطاقة العاطفية إلى إجراءاتٍ عملية لخدمة المصالح العليا للوطن وتأكيد سيادته والحفاظ على حدوده والارتقاء به ورفعة شأنه، ولا يستقيم الأمر أيضاً إلا بالعمل والإنتاج والإقلال من الخطب الحماسية والشعارات النظرية والتحول نحو الغايات العليا للدولة، ويقتضى الأمر أن نبحث فى المحاور الآتية: أولاً: إن المصريين معروفون بالتغنى الزائد بالوطن وهو أمر رائع، ولكنه يحتاج إلى تأكيد بالإنتاج والعمل، ولو أننا راجعنا الأناشيد الوطنية والأهازيج الشعبية التى تتغزل فى حب الوطن وعشق أرضه لوجدناها تملأ عددًا من المجلدات ومئات الشرائط وعشرات التسجيلات، فما من شعبٍ يرتبط بأرضه مثل الشعب المصرى الذى يرتبط بها ولا يبتعد عنها حتى إذا اضطر للهجرة منها فإنه يعود إليها ولو بعد جيلٍ أو جيلين، فمصر بحق هى الوطن والهوى والحب العميق والعشق المتأصل، وكل ذلك عظيم ولكن العبرة تكون دائمًا بما يقدمه المحب لمحبوبته والعاشق لمعشوقته، وإلا أصبحنا أمام «حب أفلاطونى» لا يقدم ولا يؤخر، فالأوطان تحتاج إلى مدد متواصل من العطاء الحقيقى والإنتاج الدائم والعمل المستمر. ثانيًا: إن المصريين شديدو الحساسية لنقد بلادهم تلميحًا أو تصريحًا وهو أمر يقتضى الارتفاع إلى مستوى ذلك النقد بمزيد من العمل ومازلت أتذكر أن بعض أشقائنا العرب يمزحون معنا قائلين: «إذا انتقد شخص غير مصرى إحدى الفرق الرياضية المصرية فإن مصر كلها تنتفض ولا تترك الذى انتقدها إلا وقد مزقه الإعلام وهاجمه الجميع» وهم يرون أن «الولاء للأوطان» شىء رائع، ولكن يعلقون دائمًا على حساسية المصريين تجاه النقد الخارجى وحبهم الشديد للوطن واحترامهم لمكانته فى كل الظروف بما فيها الانكسار والانتصار أو الهزيمة والنصر، ويشعر المصريون دائمًا أنهم «حالة خاصة» بين شعوب الأرض وأمم الدنيا، ولا بأس من ذلك فهو إحساس بالتميز صنعه الزهو التاريخى لأقدم الحضارات، ولكن الأمر يتجاوز ذلك إلى إرساء دعائم يرتكز عليها ذلك الحب الزائد وتلك الوطنية المفرطة، تلك الركائز لا تأتى إلا من تعظيم الدور المصرى فى كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة، وهو أمر يحتاج إلى العمل الجاد والسعى الدؤوب فى كل اتجاه لأنه لا يبنى الأوطان إلا أبناؤها المتعلقون بها والحريصون عليها. ثالثًا: إن الدولة العصرية الحديثة تحتاج إلى قوائم البناء وروافع التشييد قبل معاول الهدم ودوافع التحطيم، فما أكثر الدول التى نزورها ونرى فيها ملامح جادة للتقدم الحقيقى والنهضة بمعناها الشامل وعندئذ تتجه أبصارنا إلى «الكنانة» نفكر فى المشكلات التى نمر بها والمعضلات التى نواجهها والتحديات المحيطة بنا لندرك أن مسؤوليتنا هى العمل من أجلها، وهنا يأتى دور الروح المصرية الجديدة التى كنّا نتصور أن ثورات مصر الحديثة بدءًا من ثورة يوليو 52 مرورًا بثورة يناير 2011 وصولاً إلى ثورة يونيو 2013 قد أدت إلى حالة من التوازن المفقود الذى يؤدى إلى تدهور خصائص الشخصية المصرية بل ذوبان جزء من هويتها العريقة، ولقد حان الوقت لنصنع جميعًا الدولة التى نريدها ونبنى سويًا المجتمع الذى ننشده. رابعًا: إن توظيف الطاقات الوطنية فى المجالات المختلفة لخدمة الإنسان المصرى فى مكافحة الفقر ومواجهة التخلف وإزاحة الخرافة والمضى بالبلاد والعباد نحو أهداف محددة وسياسات متفق عليها هو واجب وطنى حتى لا نكون كمن يحرث فى البحر ويزرع ثمارًا لا تؤتى أكلها ولو بعد حين! وقد يقول قائل إن الدخول إلى عمق المشكلات فى «مصر» والغوص فيها قد يؤدى لأول وهلة إلى نوعٍ من الإحباط والشعور باختلاط الأولويات وعدم القدرة على تمييز نقطة البداية وسط ملفات عديدة جرى تركها لسنوات طويلة بل إهمالها لعدة عقود، وقد آن الأوان لنفتح بجدية ملفات مهمة مثل حصة «مصر» من مياه النيل وتعمير «سيناء» وغيرهما. .. إن الصراخ لا يجدى والصوت العالى لا يقنع ولابد من العودة فورًا إلى العمل الجاد والإنتاج المستمر والتضحية الكاملة، فمصر تنتظر من أبنائها أن يترجموا حبهم لها إلى عملٍ من أجلها وحرص شديد عليها. *نقلاً عن "المصري اليوم"