أراقب الحملات الإعلامية المتبادلة بين الإعلاميين السعوديين والمصريين هذه الأيام. وأقرأ آراء متوسطات الناس في مواقع التواصل الاجتماعي.
وأشاهد مناوشات النخب على شاشات التلفزيونات. أتابع ما يحصل بمزيد من الحزن وخيبة الأمل لثلاثة أسباب.
الأول أن سلوك الشعوب العربية لم يُشف حتى الآن من آثار الرجعية السياسية التي ضربت المنطقة في منتصف القرن الماضي.
والثاني إن كل مواطن في البلدين صار – بقدرة قادر – مسؤولاً حكومياً معنياً بشكل مباشر بالخلاف بين البلدين. والثالث أن هذه الفوضى الشعبية تحدث بين الأشقاء برغم أن الجهات الرسمية في البلدين لم تظهر خلال الأسبوعين الماضية ما يشير إلى وجود هذا الخلاف!! هو موجود والكل يعرف ذلك، لكنها على الأقل لم تظهره في العلن!
العلاقة السعودية المصرية منذ زمن طويل وهي على صفيح ساخن. تتأزم لأسباب تافهة وتتحسن لأسباب أكثر تفاهة. تنزل وترتفع. تسخن وتبرد.
عندما تكون الأمورعلى ما يرام، ترتفع لغة المجاملة بين الحكومتين والشعبين بشكل متصاعد إلى الدرجة التي يتخوف فيها المرء من النقطة التي تلي، إذ لا قمة أخرى بعد هذه القمة!! وعندما تتأزم العلاقة، تنحدر اللغة إلى أسفل القول وكأن العداء هو ما يجمع هذين البلدين منذ آلاف السنين.
العلاقة بين البلدين (وأقصد السلطات التنفيذية في البلدين) ليست مثالية، فهي لا تقوم على مصالح اقتصادية مشتركة متينة، ولا تتظلل تحت غطاء سياسي واحد يجمعهما في تشكيل إقليمي قوي له صوته المؤثر في المحافل الدولية. وبالإضافة لذلك لا تناظر سياسي بينهما ولاكيمياء، إذ لا ملك مصري في القاهرة ولارئيس سعودي في الرياض.
المصريون والسعوديون يتحدثون فقط عن التاريخ والجغرافيا والدم والدين والمصير المشترك.
يتحدثون عن المثاليات التي في عقولهم وذكرياتهم وينسون أن العلاقات الجيدة هذه الأيام لا تأتي بالأغاني الوطنية المشتركة و"احنا اخوات" وإنما هي في الاقتصاد المتين المتبادل والرؤية السياسية الكلية التي توحّد حتى وإن حوت تفاصيل صغيرة متضادة ومتخالفة!!
العلاقة ليست مثالية بين البلدين منذ 1252 وحتى اليوم، وهي في كل مرة تتجاوز المبالغة في الحب، وتنفجر، وهذه المرة ليست استثناءً. في كل مرة لها سبب، وفي كل مرة لعودتها سبب آخر! فما سبب انفجارها هذا الشهر، وما هو يا تُرى السبب الذي سيعيدها من جديد إلى خيمة المجاملات والاحترامات الزائدة عن الحد؟
بدأت الشرارة في نيويورك عندما صوتت مصر في نيويورك على مشروعي قرارين متناقضين بشأن الصراع في سورية. أحدهما روسي والآخر فرنسي أسباني. ومصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي – بحسب مسؤوليها- اكتشفت أن مشروعي القرارين هما في الأصل قرار واحد فصوتت عليهما سوياً متجاوزة بذلك الرؤية السياسية لروسيا التي لم تصوت على القرار الفرنسي الأسباني باعتباره يناقض مشروع قرارها، ومخلفة وراءها دول بريطانيا وفرنسا وأمريكا التي لم تصوت على القرار الروسي كونه جاء من المعسكر الضد في الأزمة السورية!!
هذا التصويت لم يعجب السفير السعودي في الأمم المتحدة، وكان يكفي منه ان يقول إن الموقف السنغالي كان أقرب للعرب من موقف مصر حتى تنطلق موجات الكراهية والعداء كالعادة. هذا سبب واحد، وكان سيأتي غيره في القريب العاجل إن لم يقم هو بالمهمة، فتأزم العلاقة بين البلدين له رسمه البياني الخاص المجدول زمنياً. تأزم فانفراج. ثم تازم فانفراج. فتأزم فانفراج وهكذا.
انفجر الصراع بسبب وسيأتي غداً سبب غير منطقي ليطفيء الغضب ويهديء النفوس ليعود الوضع كما كان: مجاملات وأحاديث عن الأخوة والعلاقات التاريخية، بانتظار انفجار أزمة جديدة.
ويتبع كل أزمة كما جرت العادة رؤى مختلفة من الجانبين بعضها وهمي وبعضها حقيقي.
فبعض الجمهور السعودي مثلاً في هذه الأزمة يظن أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يعمل في المعسكر الضد للسعودية وهذا في تقديري ظن غير حقيقي ولا يرتكز على وقائع على الأرض.
وبعضهم يظن أن علاقة المملكة بتركيا يجب أن تكون على حساب علاقتها بمصر وهذا في تقديري خطأ استراتيجي، فعلاقة مصر بتركيا لا ينبغي لها أن تمر بالأجواء السعودية، حتى وإن أراد لها بعض الأتراك وبعض المصريين وبعض السعوديين أن تفعل ذلك! أما البعض الثالث وهو كثير فهو تابع للبعضين سالفي الذكر وليس خصماً مباشراً لمصر!! هو ليس خصماً بقدر ما هو هتّيف جيد لا أقل ولا اكثر.
أما بعض الجمهور المصري، فهو عاطفي ومعزول ويكفي أن يثير أحد المهرجين الإعلاميين في برنامجة التلفزيوني مسألة القيادة والريادة واستقلال الرأي واللبن المصري المسكوب، حتى يثور و يحطم الواقع ويكسّر الحلم من أجل مصرالمحروسة ... بهيّة...قاعدة العالم و"أم الدنيا".
وبعضهم يظن أن مسألة الدعم الاقتصادي السعودي لمصر فيه إهانة للكرامة الوطنية، لذلك هو يحتج بطريقته الخاصة: أريد الدعم أن يستمر لكن لن أركع. والبعض الثالث يشبه تماماً البعض السعودي الثالث، يتبع موجهيه، ولا يرى سوى ما يرون!
مجموعات من الشعبين تتصارع على مواقع التواصل الاجتماعي وفي البرامج التلفزيونية المباشرة والحكومتان غير معترفتين بالخلاف، على الأقل حتى الآن، ولا تنويان على ما يبدو نفي حالة التوتر بينهما، ربما لأنهما باتتا تعرفان أن الانفراج قادم لامحالة اعتماداً على ما اكتسبتاه من خبرات طويلة في هذه العلاقة!
يقول أحد المعلقين أن موقف الحكومة المصري الأخير هو بسبب تخوف مصر من انهيار الجيش السوري ومشاركة الأخوان في الحكم هناك الأمر الذي سيمهد الطريق لوضع حد لتحكم الجيش المصري بلحياة العامة ورجوع الأخوان من جديد إلى المشهد.
ويظن آخر أن مصر غاضبة من التقارب السعودي التركي لذلك هي تبعث بإشارات مهمة عبر موقفها الرسمي هذا في الأمم المتحدة إلى الرياض مفادها إن القاهرة ستذهب بعيداً جداً في تحالفاتها في حال استمرت السعودية في تقاربها من تركيا!
وأظن أن الأمر أبسط من ذلك بكثير.
مصر المتعبة بمشاكلها الداخلية تحاول أحياناً أن تعالج جراحها الداخلية بوضع العصا في العجلة عربياً وإقليمياً. هي غير قادرة على إنتاج الحلول في الوقت الحالي، لذا تلجأ إلى الطريقة الأسهل للحضور: "خلق القليل من المشاكل"، فمصر لا يجب أن تغيب عن المشهد – كما يروّج مسؤولوها الذين يريدون أن يُبعدوا الكاميرا الداخلية عن مشاكلهم، أو كما يقول إعلاميوها الذين يريدون أن ينتقموا من حكومتهم بطريقتهم الخاصة.
مصر لا يجب ان تغيب عن المشهد، وهذا ما أقوله أنا أيضاً، فدولة بحجمها وعراقتها يجب أن تكون حاضرة في كل المسائل العربية القائمة، وأظن أن الخارجية السعودية أهملت هذا الأمر كثيراً وهذا أحد الأسباب التي أيضاً أخرجت المصريين عن طورهم في نيويورك.
لتتوقف مصر عن عقدة القيادة والريادة، فزمننا الحالي لا يحتمل مثل هذه التهويمات الرجعية، ولتبدأ الخارجية السعودية في بناء علاقة جديدة مع القاهرة تكون مصر بموجبها في قلب الأحداث العربية بالرأي والمشورة... والمشاركة إن شاءت.
العلاقة السعودية المصرية علاقة معقدة ولا يمكن أن تُدار على طريقة "دعها تعمل" ولا على طريقة "دعها فإنها مأمورة"، وإنما تحتاج إلى عمل طويل من البناء الاقتصادي المشترك، وإلى حين انتهاؤه فإنها تحتاج في الوقت الحالي إلى طبيب نفسي ليس إلاّ.
صحافي وكاتب سعودي
اذهب أنت أولا إلى الطبيب النفسي