«نَفَسُ الرِّجال يُحيي الرِّجال»، مع الاعتذار الشديد لكل نساء العالم. و«عاصفة الحزم»، التي كان هذا التحالف العربي، الذي انتشل الأمة العربية من واقعٍ رديء بالفعل، هو أحد إنجازاتها هي سبب كل هذه المتغيرات التي طرأت على واقع ميادين القتال بين المعارضة والنظام في سوريا، فالنجاحات التي تحققت في اليمن والتي لا تزال تتحقق قد انعكست، وفقًا لنظرية السوائل في الأواني المستطرقة المعروفة، على معادلات القوى السورية المتصارعة وأيضًا، في حقيقة الأمر، على الأوضاع في العراق وفي لبنان وبعض دول الخليج العربي. لقد قُلْت وقال غيري مرارًا وتكرارًا إنَّه قبل «عاصفة الحزم»، وقبل بروز هذا التحالف العربي الواعد الذي يمكن البناء عليه من أجل أن يأخذ العرب مكانتهم المفترضة في هذه المنطقة وفي العالم بأسره، كان هناك اعتراف يصل إلى حدّ الاستسلام بأنَّ هذا العصر هو عصر إيراني، وأنه من العبث الوقوف في وجه إيران التي غدت قوة متفوقة، وغدا العالم، وفي مقدمته الولايات المتحدة، ينظر إليها على أنها الرقم الفاعل الرئيسي في المعادلة الشرق أوسطية، وبالتالي فإن من يريد الحفاظ على مصالحه «الاستراتيجية» فعليه أن يضع يده في يدها، وعليه أنْ يهمل العرب لأنهم أصبحوا، حتى مجتمعين، قوة ثانوية!! ولذلك، وعلى هذا الأساس، فقد استمرت مفاوضات أو محادثات النووي بين مجموعة «5+1» وإيران بالطريقة التي استمرت بها. ولذلك، وعلى هذا الأساس أيضًا، فإنَّ الدول الكبرى كلها، كلها من دون استثناء ولا دولة واحدة، بدأت تنظر إلى الشرق الأوسط على أنه منطقة نفوذ إيراني. والمعروف أنها، أي هذه الدول، قد تراجعت إنْ ليس عن كل مواقفها السابقة تجاه الصراع في سوريا فمعظمها، وهذا هو في حقيقة الأمر ما جعل دولة الولي الفقيه تتمادى كثيرًا في التدخل في شؤون سوريا الداخلية، وما جعل نظام بشار الأسد يبقى قائمًا حتى الآن، وما جعل بعض دول الاتحاد الأوروبي تفتح قنوات اتصال خلفية مع هذا النظام الذي كانت تصفه بـ«القاتل» و«الدموي»، ومع أجهزته الاستخبارية. كان عنوان مرحلة ما قبل «عاصفة الحزم» وبروز هذا التحالف العربي الواعد بالنسبة لسوريا والتطورات السورية التي تلاحقت خلال الأعوام الأربعة الماضية هو هذا المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، الذي جاء إلى هذه المنطقة بمشروع حل يبدأ بمدينة حلب هو في حقيقة الأمر عبارة عن مشروع تأبين للمعارضة السورية، وهو عبارة عن مشروع إعادة بناء لنظام بشار الأسد، يفتح المجال أمامه ليستمر لعشرين سنة مقبلة وربما أكثر، ولينقل مهمة اضطهاد الشعب السوري التي تسلمها من والده إلى ابنه حافظ الذي بات يعامل على أنه ولي العهد بالنسبة للعائلة الأسدية الحاكمة. إن المفترض أن الكل يذكر كيف أنَّ بشار الأسد كان قد التقط أنفاسه قبل «عاصفة الحزم» بأيام قليلة، وأعلن ومعه البوق الإيراني حسن نصر الله أن قواته ذاهبة إلى حلب لتخوض المعركة الأخيرة، وأن كل شيء أصبح منتهيًا، وأن الأمور قد عادت إلى نصابها، وأنه لا ثورة ولا معارضة بعد الآن، وأنَّ التحالف الإيراني أصبح قدرًا لكل أهل هذه المنطقة. وحقيقة فإن معنويات الرأي العام العربي كانت قد أصبحت في تلك المرحلة في الحضيض وذلك إلى حدِّ أن بعض العرب بادروا إلى فتح قنوات سرية وأيضًا علنية مع إيران، و«على عينك يا تاجر» كما يقول المثل العربي. لكن ما الذي حصل بعد «عاصفة الحزم» فتغيرت معادلة الصراع في سوريا وأصبحت الأمور على ما هي عليه الآن..؟! إن الذي حصل هو أن «عاصفة الحزم» قد أثبتت أنها ليست مجرد عملية عسكرية تستهدف تحالف الحوثيين مع علي عبد الله صالح للحفاظ على الشرعية اليمنية، التي أراد هؤلاء التخلص منها، بل بداية نهوضٍ عربي شامل، وأنها أيقظت وجدان الأمة العربية كلها. ولعل ما تجب الإشارة إليه هو أنَّ هذا قد تجلَّى وبأوضح صوره من «تطْوان» في الغرب وحتى رأس الخيمة في الشرق، ومن «كريتر» في الجنوب وحتى «باب الهوى» في الشمال على الحدود السورية - التركية. سُئِل أحد كبار ضباط الجيش السوري الحر عن الجديد الذي نقل المعارضة السورية من واقع الدفاع إلى واقع الهجوم، والذي جعلها تحقق كل هذه الانتصارات التي حققتها في إدْلب وجسر الشغور وفي حماه وأيضًا في جبهة الجنوب، على الحدود السورية – الأردنية، كلها.. وكان جوابه أن هذا الجديد هو «عاصفة الحزم»، وهو الانتصارات التي حققها «التحالف العربي» في اليمن. لقد عززت هذه الانتصارات ثقة قوى الثورة بنفسها، وجعلتها تلملم أوضاعها وتبادر إلى تجاوز تعارضاتها وتنصهر في إطار تحالف عام شعاره التخلص من نظام بشار الأسد وتحرير سوريا من الظلم والطغيان والحفاظ على وحدتها ووحدة شعبها. في آخر عدد لها نشرت صحيفة الـ«واشنطن بوست» تحقيقًا موسعًا عمَّا أصبحت عليه أوضاع نظام بشار الأسد، استندت في جانب منه إلى معلومات نسبتها إلى السفير الأميركي (السابق) في دمشق روبرت فورد، وهي قالت مما قالته في هذا التحقيق إنَّ قبضة الرئيس السوري بدأت تهتز، وإنَّ نهايته أصبحت قريبة، وإن الخلافات باتت تحتدم داخل عائلته، مشيرة إلى عدد من التصفيات المتبادلة داخل هذه العائلة، ومشيرة إلى أنَّ ابن خاله حافظ مخلوف، المسؤول الأمني في منطقة دمشق والذائع الصيت في دمويته وإجرامه، قد استقال من منصبه، وأنه قد يكون غادر البلاد إلى جهة مجهولة. بعد «عاصفة الحزم»، وبعد انشغال إيران بالأوضاع اليمنية الملتهبة وبالأوضاع المتفاقمة في العراق، شعر بشار الأسد بأنَّ حلفاءه بدأوا يتخلون عنه، وأنَّ «الحنفية» التي كانت تضخُّ الأموال عليه قد توقفت، وأن نهايته باتت قريبة. ولعلَّ ما زاد الطين بلَّة، كما يقال، أنَّ كل هذه المستجدات قد جعلت المتحلقين حوله يفقدون الأمل به وبأنفسهم، وجعلت الخلافات تدب بين أبناء عائلته، وهذا أضعف معنويات باقي ما تبقى من جيشه وجعلهم يتركون مواقعهم من دون أي قتال وأي مقاومة في إدلب وفي جسر الشغور وفي العديد من المواقع والحواجز في ريف حماه وأيضًا في العديد من المواقع في الجبهة الجنوبية. لقد أصبح بشار الأسد عمليًا في حالة انهيار معنوي، وأصبح بلا جيش متماسك ومنضبط، وأصبح قتاله ضد الجيش الحر وقوى المعارضة بالمروحيات وبالبراميل المتفجرة، ثم وفوق هذا كله فإنَّ الطائفة العلوية التي تمكن من اختطافها وزجها في حرب، هي ليست حربها، على مدى الأعوام الأربعة الماضية قد أدركت، بعدما فقدت كما تقول التقديرات أكثر من ستين ألفًا من أبنائها، أن عليها أن تخرج من دائرة هذا النظام وأن تسعى إلى أي رأب للصدع مع شركائها في الوطن وفي المستقبل، وهنا فإنه لا بد من التأكيد على ضرورة أن تلتقط قوى المعارضة السورية هذه اللحظة التاريخية، وأن تغلب المصالح الوطنية العليا على الخلافات والأوجاع الخاصة، وأنْ تتقدم نحو أبناء هذه الطائفة عشر خطوات إنْ هم تقدموا نحوها ولو بمقدار خطوة واحدة. ثم في النهاية، وإذا كان لنا الحق في أي مراهنة على ما يمكن أن يحصل في سوريا خلال الأيام المقبلة، سواء كانت هذه الأيام قريبة أم بعيدة، فإننا نراهن على إمكانية بروز مجموعة من الضباط الوطنيين، حتى من أبناء الطائفة العلوية، وقيامهم بإزاحة هذا النظام والمبادرة فورًا للانفتاح على المعارضة السورية للتفاهم معها على مستقبل البلاد وإقامة نظام يمثل كل أبناء سوريا ويحافظ على وحدة هذا البلد ووحدة شعبه وعلى كونه لبنة أساسية في صرح الأمة العربية الواحدة. *نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"