ربما لا توجد قضية عربية انتُهكت واستُخدمت؛ لتبرير أكثر الأحداث شناعة في التاريخ العربي الحديث كالقضية الفلسطينية. بحجم جريمة الاحتلال، وإعلان الكيان الصهيوني، وإبادة وقتل الفلسطينيين من الصهاينة؛ كانت فظاعة استخدام شعار تحرير فلسطين لتبرير أشكال التخلف والقمع والاستبداد لأنظمة عربية، شارك بعضها في قتل الفلسطينيين أنفسهم، تحت ظلال شعارات التحرر والممانعة والمقاومة. القضايا العادلة ليست محصنة ضد الانتهازيين؛ فأكثر القضايا عدالةً سيندس في موكبها أشخاص يريدون تحقيق مصالح وأغراض بعيدة كل البعد عن عدالة القضية ذاتها. كما سيرفعون شعارات ومبادئ هم أكثر الناس بُعداً عنها. إذا كان هذا ينطبق على الأفراد الذي يعتبرون جزءاً من هذه القضايا، وممن مست حياتهم بشكل مباشر، فهو ينطبق بشكل أشد على الأنظمة السياسية. إذا كان هناك من الساسة الفلسطينيين أنفسهم من يتهم بنزوعه إلى تفاهمات وتسويات مع الكيان الصهيوني؛ لتحقيق مصالح فردية، فالموضوع أشد في الحديث عن أحزاب ودول خارج فلسطين. أو على مستوى العلاقات الفلسطينية-العربية. مقاومة الاحتلال الصهيوني ليست أمراً طارئاً على الأمة العربية؛ ليحتكره نظام سياسي أو حزب أو آيديولوجيا. قاوم العرب الاستعمار البريطاني والتمدد الصهيوني في فلسطين منذ عقود، قبل إعلان الكيان الصهيوني وجوده. والأكيد أن القضية الفلسطينية خُذلت من الأنظمة العربية لاحقاً كما لم تُخذل من أي جهة قط. وتناوبت على القضية آيديولوجيات مختلفة، وهو ما يجعل احتكار شعار المقاومة على حزب أو دولة محض جهل بالواقع والتاريخ ومغالطة. كان الفلسطينيون يقفون وحيدين في مواجهة الصهاينة، بينما تفرغت معظم الأنظمة العربية؛ لتبرير الاستبداد والقمع الداخلي في بلدانهم بتحرير فلسطين. اضطر الفلسطينيون إلى عقد تحالفات مع بعض هذه الأنظمة؛ لتحصيل الدعم المادي والسياسي لقضيتهم، وهذا أمر مشروع ومفهوم تماماً، على رغم أنه أضر القضية الفلسطينية في منعطفات عدة. وأدى في نهاية المطاف إلى تعدد ولاءات المقاومة الفلسطينية للأنظمة العربية، وهو ما جعل هذه الأنظمة تستخدم الفلسطينيين أحياناً لمنكافة بعضهم بعضاً. بل لُعب على التناقضات الآيديولوجية والمصلحية للفلسطينيين؛ لاستخدامهم بعضهم ضد بعض. من الأمثلة الصارخة على استخدام الفلسطينيين في مناكفات الأنظمة العربية لبعضها، حادثة احتجاز وزراء أوبك في سويسرا 1975؛ إذ اجتمع وديع حداد -وكانت علاقته شبه منقطعة مع جورج حبش وقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تلك الفترة- مع رئيس عربي (قيل بأنه معمر القذافي)، والذي أكد ضرورة تصفية وزير النفط السعودي أحمد زكي يماني مع الوزير الإيراني، على رغم أن هدف العملية كان إيجاد تمويل مالي لعمليات المجال الخارجي الذي يشرف عليه حداد. بحسب شهادة أحد المشاركين في العملية، أنيس النقاش (في حواره مع غسان شربل والذي نشر في صحيفة «الحياة» ولاحقاً في كتاب «أسرار الصندوق الأسود») شدد حداد على ضرورة أخذ الوزيرين إلى بغداد أو عدن لإعدامهم. ولأن إعدامهم كان سيتسبب بأزمة كبرى بين العرق وإيران لو نُفذ في بغداد؛ لتداعيات الحدث على اتفاقية الجزائر، وسيورط عدن لو تم على أراضي اليمن الجنوبي بحسب تقديرات النقاش، فقد اتفق مع كارلوس على تجاهل تعليمات وديع حداد، واعتبار إعدام الوزيرين خطيئة سياسية، وهذا ما حدث. مثال آخر على جنايات الأنظمة العربية على الفلسطينيين: ما قامت به حركة أمل المتحالفة مع النظام السوري بقيادة حافظ الأسد في ما يعرف بحرب المخيمات في منتصف الثمانينات الميلادية؛ إذ ارتكبت حركة أمل، بحماية الجيش السوري، مجازر في الفلسطينيين خلال تلك الحقبة السوداء في لبنان وسورية، على رغم شعارات المقاومة والممانعة التي تغنى بها النظام السوري، وما واقع مخيم اليرموك في سورية اليوم إلا فصل من هذا الكتاب الأسود للنظام السوري. قبل مساندة النظام السوري لتصفية الفلسطينيين في لبنان في الثمانينات، رفض حافظ الأسد تدخل القوات السورية لحماية الفلسطينيين في الأردن أثناء نكبة أيلول الأسود. رفض الأسد -وكان وزيراً للدفاع- تقديم إسناد جوي للقوات السورية، ورفض التدخل الذي كان يفكر فيه صلاح جديد ونور الدين الأتاسي، ولم يكن الموضوع عقلانية سياسية، كما توهم بعضهم، بل كان الأسد يخطط لقيادة انقلاب عسكري في سورية. وهذا ما تم لاحقاً؛ إذ انقلب الأسد على أحمد الخطيب سنة 1971. في سياق آخر، وأثناء الاحتلال العراقي للكويت، استخدم صدام حسين فلسطين مرة أخرى لتحقيق مناورات سياسية؛ إذ رفع شعارات تحرير فلسطين؛ لتبرير احتلال بلد عربي، وأعلن موافقته على إنهاء احتلال الكويت في حال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وعندما بدأت قوات التحالف الدولي عملياتها ضد الجيش العراقي، قصف العراق تل أبيب؛ لإحراج السعودية وتحقيق جماهيرية عربية. وهذا ليس رفضاً لقصف تل أبيب، لكن لماذا لم يقصف العراق الكيان الصهيوني قبل احتلال الكويت؟ كل هذا لا يقلل من أهمية القضية الفلسطينية وقيمتها وعدالتها؛ فكون القضية استُخدمت من أنظمة عربية بشكل سلبي لا يطعن في عدل القضية. وكون بعض الفلسطينيين دخلوا في مناورات الأنظمة العربية فهذا لا يضر المقاومين في شيء. هناك وقائع سياسية تفرض على المقاومة تحالفات سياسية مع أنظمة سيئة الصيت، لكنه لن يغسل عار هذه الأنظمة أبداً، ولا يغطي صدرها بنياشين الشرف والعزة.