2015-10-10 

أوروبا.. عالم غير مثالي

محمد العريان

مع انتقال قطار «يوروستار» الذي نستقله من لندن عبر القناة الإنجليزية إلى باريس، لم يسعني سوى التفكير في آلاف المهاجرين الذين يئنون على جانبي القناة. من جديد، نجد الأنظمة السياسية الوطنية والإقليمية تناضل من أجل التعامل مع مأساة إنسانية متفاقمة وتداعياتها التي تشمل تعطيل التجارة، ما يسفر بدوره عن ظهور أزمة سياسية. إن الجانب الاقتصادي لأزمة مهاجري القناة واضح للغاية، ذلك أنها تدور بصورة أساسية حول إخفاقات العرض والطلب والقواعد التنظيمية. كما تسلط الضوء على الحلول المحتملة، رغم أنها سوف تستغرق وقتا كي تتحقق. إن تدفق المهاجرين على أوروبا تغذيه موجات من الأفراد الفارين من شقاء اقتصادي واجتماعي بأوطانهم - وفي بعض الأحيان، قمع سياسي واضطهاد وعنف. ويفد المهاجرون إلى أوروبا على أمل إيجاد مستقبل أفضل لهم ولأطفالهم. وتزداد الإغراءات التي تدفع البعض لخوض الرحلة الطويلة حتى الوصول للمملكة المتحدة، وغالبًا ما يأتي ذلك بعد عبور محفوف بالمخاطر للبحر وعبر غرب أوروبا، نتيجة جاذبية الاقتصاد البريطاني الذي يتسم بانخفاض البطالة وتوافر خدمات اجتماعية شاملة، علاوة على أنها بلاد يعرف الكثيرون لغتها. ورغم تنامي إمدادات اللاجئين، فإن الطلب على العمالة المهاجرة تحرك بالاتجاه المعاكس، حيث زادت القوانين الصارمة من صعوبة وخطورة استعانة أصحاب الأعمال بعمال غير مسجلين. ومع تجاوز معدل البطالة في أوروبا حاجز 10 في المائة، فإن الطلب على المهاجرين ازداد انحسارًا. ومن المتعذر معالجة هذا التفاوت بين العرض والطلب بالاعتماد على الآليات الطبيعية للأسواق. إن أجر تطهير السوق يقل بكثير عن الحد الأدنى للأجور السائد في أوروبا، ومن شأن أي تقليل لهذا الأجر خلق مشكلات اجتماعية ضخمة وغير مقبولة للسكان المحليين بالدول الأوروبية. من ناحية أخرى، لا تقدم الأنظمة التنظيمية الكثير من العون في هذا الصدد، خاصة أنها تتعرض لضغوط على مستويات عدة، من دول المنشأ ونقاط الترانزيت والدخول إلى أوروبا، وصولاً إلى الوجهات الأخيرة. وفي المواقف التي يجري فيها دعم النظام التنظيمي بحواجز مادية تظهر مؤشرات واضحة للجميع تكشف حرمان ويأس المهاجرين. في خضم ذلك، تتعطل حركة نقل مختلف السلع، ما يسبب خسائر اقتصادية كبرى، حيث يتعفن الطعام في الشاحنات في انتظار عبور القناة، وتتوقف السيارات عن الحركة، ما يقوض سلاسل العرض. كما يتعرض النقل الخاص، بما في ذلك السياحة، لتأخيرات طويلة بسبب ازدحام الطرق وتشديد الإجراءات الأمنية. أما شبكات الأمان الاجتماعي، فإنه حتى إذا توافر لديها الاستعداد، تبقى ضعيفة للغاية بدرجة تجعلها عاجزة عن التكيف مع المآسي الإنسانية المتدفقة يوميًا. ويزيد كل ذلك الضغوط على عاتق السياسيين لتسوية المشكلة، لكنهم ما زالوا عاجزين عن التوصل لحلول فاعلة، على الصعيدين الوطني والإقليمي. في الواقع، لن تختفي هذه المشكلة قريبًا، وذلك لسبب بسيط مثير للإحباط، وهو أن هذا الموقف المأساوي يستلزم حلاً تعاونيًا شاملاً، لكن أفضل ما تمكنت الأنظمة السياسية من طرحه حتى الآن هو توجه تدريجي يفتقر إلى التنسيق المناسب. ومن شأن هذا التوجه في أفضل الأحوال التخفيف من حدة المشكلة، لكنه لن يحلها على نحو حاسم ومستديم. في عالم مثالي، فإن التوجهات الوطنية المنقحة يصاحبها تعاون حقيقي، ليس بين الدول الأوروبية التي تشكل دول المقصد فحسب، وإنما كذلك بينها وبين دول المنشأ وتلك التي يمر خلالها المهاجرون غير المسجلين، بيد أنه من المؤسف والمحزن أن هذا لا يتحقق في عالمنا الذي تناضل فيه أوروبا لحل قضاياها الداخلية، بما في ذلك أزمة اليونان، بينما تعاني الدول التي تفر منها أعداد ضخمة من المهاجرين من الهشاشة، وتقف بعضها على حافة التحول لدول فاشلة - إن لم تكن أصبحت كذلك بالفعل. * بالاتفاق مع «بلومبيرغ»

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه