في رواية «الأسوَد يليق بك» للجزائرية أحلام مستغانمي حديث عن المهاجرين الباحثين عن «حياة»، حديث كان قبل «الربيع العربي»، أقتطع منه التالي: «ليكونوا أهلاً بتسميتهم «حراقة» ألغوا أيّ احتمال للرجوع، بإحراقهم جوازات سفرهم وأوراقهم الثبوتيّة. حتّى لا يتركوا لحرّاس الشواطئ على الضفّة الأخرى إمكانيّة طردهم من «الجنّة»، إن هم وصلوها أحياء. فسيكون صعباً على بوليس الهجرة فكّ فوازير أصولهم، ومعرفة من أين جاؤوا، وإلى أين يجب ترحيل هؤلاء القادمين من بوّابة البحر الواسعة. أمّا إذا غرقوا فلن يدقّق البحر في هويّتهم، ستختار الأمواج عنواناً لقبورهم. أولئك الذين ما كانوا يملكون شيئاً يعزّ عليهم فراقه، عدا أهلهم، كيف لا تحمل الأمواج آخر رسائلهم، وهم يصارعون عزّلّاً آخر موجة ستسحبهم حيث لا عودة. الرسائل غدت أغاني «راني في الموج نتقلّب يا امّا الحنينة... ما بقَي لي رجوعْ... إداني البحر.. مُحال اِنوَلّيِ». وهي تتحدث عن مهاجرين لم تكن بلدانهم تخوض حروباً أهلية حينها، لكنهم، ومن شدة الفقر وكثرة الفساد وقلة احترام الإنسانية، يركبون البحر بحثاً عن إحدى حسنيين باتتا الخيارين الوحيد: الموت غرقاً، أو الوصول إلى أراضي البر الأوروبي. الشاعر نزار قباني قال يوماً: «سامحونا إن تجمعنا كأغنام على ظهر السفينة وتشردنا على كل المحيطات سنين وسنين لم نجد ما بين تجار العرب تاجراً يقبل أن يعلفنا... أو يشترينا لم نجد بين جميلات العرب امرأة تقبل أن تعشقنا... أو تفتدينا لم نجد ما بين ثوار العرب ثائراً لم يغمد السكين... فينا». تخيل أن من كتبت عنهم الرواية والشعر أعلاه كانوا من بلدان مستقرة، أو هكذا تبدو، لكنها تحت الاستبداد، سواء كان سياسياً، أو اقتصادياً، لذلك كانوا يهربون من قمع إنسانيتهم، أو بحثاً عن حلم لم تحتوِه أراضيهم. واندلع خريف أطلقوا عليه الربيع، لأنه كذلك لبعضهم، فعاود العربي من كثير من البلدان ركوب البحر هرباً إلى «المستعمر» القديم الذي يجده اليوم أرحم به من بني جلدته، الذين تخلصوا من مستبد واحد، ليقعوا في براثن مجموعة من المستبدين، والذين بات دخان القنابل وغبار هدم المنازل قوت يومهم، وباتت صرخات أطفالهم ودموع نسائهم قصائدهم اليومية الحزينة. في بعض البلدان بات الإنسان العربي بين خيارين، الانضمام إلى جماعة أو فئة أو طائفة أو سمها ما شئت تحارب بني جلدتها بحثاً عن السلطة، أو الهروب ببقية لحم وعظم سحقت إنسانيته وحقوقه إلى العالم الآخر الذي فرغ من الاقتتال قبل قرن وتفرغ للتفوق الإنساني. موجع ومؤلم وضع المهاجرين، أو هم المهجّرون لأنه لذلك ليس خيارهم، وليس لهم إلا الدعاء وربما قصائد وروايات «أدبية» جديدة. صحيفة الحياة