حاولت الإدارات التي تعاقبت على البيت الأبيض إضعاف قبضة الملالي الإيرانيين على البلاد من خلال الحرب والعقوبات والعزل الديبلوماسي. إلّا أن السياسات المعتمدة كلها باءت بفشلٍ ذريع، ويتوقّع عددٌ كبير من المسؤولين الأمريكيين حصول الأمر نفسه مع استراتيجية الرئيس أوباما الجديدة التي ترتكز على الديبلوماسية «الخفيّة» وتحاول توطيد علاقات ديبلوماسية وسياسية أفضل مع إيران من خلال الاتفاق النووي. فالاعتقاد العام بأنّ إيران ترعى الإرهاب وتهدّد حلفاء الولايات المتحدة قد يكون أمراً ثابتاً بقدر قبضة الملالي على السلطة.
وخلال الزيارة القادمة التي يقوم بها مسؤولون من وزارة الخارجية الأمريكية إلى طهران، يتوقع داني خليل الطهرواوي المحرر السابق في صحيفة العراق مونيتور في مقال له في منتدى فكرة بان تبقى فرص التقاط صورة لرئيس إيراني يعانق ديبلوماسيين أمريكيين بارزين معدومةً. وهكذا هو التقرّب من إيران، أشبه بمعانقة محرجة من طرف واحد. بالرغم من ذلك، كان من شأن المفاوضات الماراثونية الناجحة التي وضعت حدًّا للأزمة النووية أن حثّت العالم على الإشادة بتفاؤلٍ بالسياسيين الإيرانيين «المعتدلين» الذين يتطلّعون إلى إنشاء روابط أفضل مع الغرب. فقد قامت مجلّة أمريكية مرموقة مؤخّراً بوصف وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ووزير الخارجية الإيراني بالـ«أصدقاء» فيما كانا يعملان معاً على تأمين إطلاق سراح البحّارة الأمريكيين الذين احتُجزوا بعد انحرافهم بشكل غير متعمّد نحو المياه الإيرانية الإقليمية.
إلّا أنّ تلك المقالة والعديد من مثيلاتها تعرض وجهة نظر خيالية للسياسة الإيرانية. فمن خلال الإيحاء بأنّ غياب العداوة الشخصية أو السياسية تجاه الولايات المتحدة لدى السياسيين الإيرانيين أمثال ظريف يتجلّى في الطلاقة باللغة الإنكليزية وبفهم جيّد للثقافة الأمريكية، تتجاهل هذه المقالات التفسير الواقعي الذي يعني أنّ تعلّم لغة الخصم وثقافته هو تكتيك كلاسيكي لإدارة الصراع وشنّه بحنكة.
في الواقع، يقوم المرشد الأعلى المتشدّد آية الله علي خامنئي ونوّابه باختيار السياسيين الإيرانيين من كافّة المراكز ومستويات الاعتدال. وقد سبق أن شدد النظام السياسي الإيراني على هذه النقطة عندما قام الخامنئي باستبعاد مئات المرشّحين الأكثر ليبراليةً، بمن فيهم حفيد آية الله الخميني، ليعود ويُسمح لهم بالمشاركة مؤخّراً فقط. بعبارات أخرى، وحدهم السياسيون الذين يخضعون للتدقيق من قبل المؤسسة الإيرانية المحافظة ينجحون.
أما الإيرانيون المعتدلون الفعليون فهم المواطنون الذين يطالبون بإصلاح سياسي من خلال استبدال الملالي بالتكنوقراط الذين يمتلكون المهارات القادرة على إصلاح الاقتصاد الإيراني والعلاقات الدولية. إذ تأمل هذه الطبقة الإيرانية المتوسطة والدنيا بأنّه عندما تُستأنف العمليات التجارية، سيزدهر أصحاب المصالح والمهنيّون الماهرون، من الصغار وصولاً إلى المتوسطين، ما يشير إلى أنّ الاقتصاد والاعتدال في إيران هما مرادفان. في هذا الإطار، قد يمهّد الاتفاق النووي الأخير بالفعل الطريق أمام إيران لاستئناف العمليات التجارية في العديد من المجالات ولتعزيز إنتاجها للنفط بأكثر من ٧٥ في المئة. لكن من المستبعد أن تتخلّى الحكومة الإيرانية عن السلطة مقابل المزيد من الازدهار في البلاد.
وفي دلالة على معارضة الملالي الراديكاليين للتغييرات في اقتصاد إيران المركزي، أصرّ المرشد الأعلى عقب الاتفاق النووي على أنّ إيران لن تتساهل مع أي شكل من أشكال الإصلاحات الاقتصادية والثقافية ذات الأسلوب الغربي. وتشديدًا على هذه النقطة، قامت الشرطة الإيرانية بإقفال نسخة مقلّدة عن مطعم الوجبات السريعة الأمريكي «كاي أف سي» بعد يوم واحد من توقيع الاتفاق، متّهمةً المطعم بـ«تقويض القيم الإسلامية».
وبدل ذلك، حاولت ايران من خلال جولة في عدد من الدول الاوروبية عقد عدد من الاتفاقيات الثنائية واستقطاب عدد من المستثمرين الاوروبيين لكن هذا الهدف الايراني لن يتحقق في ظل الوضع الحالي الذي يعيشه هذا البلد وخاصة مواطنوه . فعلى غرار العراق في ظل حكم صدّام حسين، يعاني المواطنون إما من الخوف أو من الضعف المفرط من معارضة الحكومة والشرطة الإيرانية، ضامنين بذلك استقراراً قائماً على الخوف. فبالنسبة إلى المواطن العادي، قد يؤدّي خرق حتّى أبسط القوانين إلى السجن لمدة طويلة، وذلك عبر أحد أكثر الأنظمة القضائية فساداً في العالم. إلّا أنّ الحكومة الإيرانية لا تستطيع ببساطة إرغام الشركات الغربية على القيام بالتبادلات التجارية في سوق سوداء تديرها قوّات إيرانية شبه عسكرية. فالشركات الغربية لن تبدأ العمل في إيران إلا إذا استطاع الملالي إظهار قيامهم بالإصلاحات اللازمة لضمان حصول عمليات آمنة وغير مقيّدة.
يقول داني خليل الطهراوي "بان نجاح إيران و صدق نواياها في انفتاحها على الغرب سيمكنها من دخول مجال اقتصادي وسياسي أرحب" لكنه يستدرك بان كل الدلائل والمؤشرات تؤكد بان التقارب بينها وبين الغرب سيفشل فشلاً ذريعاً. ولسوء الحظ، تشير الدلائل الأخيرة إلى سلوك هذا المسار. كما أن تاريخ الجمهورية الإسلامية في الاعتداء على البعثات الديبلوماسية واحتجاز الرهائن الأجانب لا يظهر أي إشارات تدلّ على توقّف هذا الأمر. فقد سمحت إيران «للمتظاهرين» بنهب وحرق السفارة السعودية بعد إعدام الشيخ نمر النمر. ولم يأمر المرشد الأعلى شعبه بإزالة رسوم الغرافيتي المعادية لأمريكا أو إسكات أناشيد «الموت لأمريكا». وقد صرّح خامنئي مؤخراً للصحافة بأنّه «لا يثق» بأمريكا وأنّ أمريكا «بحاجة إلى» إيران. يثير هذا التصرّف الأخير الشكّ حول استخدام المرشد الأعلى للروابط الاقتصادية الجديدة مع العالم لإثبات جدّية إيران في اضطلاعها بدور اللاعب المسؤول والشريك والصديق.
يبدو حالياً أنّ إيران، بالرغم من موقع القوّة الذي تتمتّع به، ستستمرّ في استفزاز الغرب وطعنه. وقد يكون التطبيق الصادق للاتفاق النووي فرصة الملالي الأخيرة لإثبات جديّتهم في الانضمام إلى المجتمع الدولي، إلّا أنّ فرصة الاستفزاز على جبهة النووي قد تكون مغرية إلى حدٍّ يصعب مقاومتها.