العرب- أن تدخل الخرطوم على خط الأزمة القائمة في القاهرة بعد أن رفضت فعاليات سياسية وإعلامية وشعبيّة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، والذي أفضى إلى انضواء جزيرتي تيران وصنافير تحت سيادة المملكة العربية السعودية، دليل على أن السودان يسعى إلى إحراج النظام المصري ويروم تأبيد المعضلة التي باتت تقوّض شيئا من شرعيّة الحكم في مصر ما بعد 30 يونيو 2013. قد تكون الأزمة لدى النظام المصري الحالي كامنة في قصوره في ملفّات أساسيّة تمثّل وجدان الإنسان المصريّ وأنثروبولوجيته الممتدة على عشرات الآلاف من السنين والمتمثلة في النيل والأرض.
عجزت كافة الجولات المكوكية التي أداها قادة الدبلوماسية المصرية إلى أثيوبيا، ومعها الوساطات السياسية الكثيرة عن الحيلولة دون تكريس التجفيف المستمر لمنابع نهر النيل ودون تحويل مجراه أمام عنهجية دول المصبّ التي شيّدت سد النهضة، الأمر الذي أفضى إلى عجز مائيّ يقدّر بـ40 مليار متر مكعّب وفق بعض التقارير الحكوميّة.
وعلى الرغم من تعليق القاهرة لعضويتها في اتفاقيّة عنتابي (وثيقة تقسيم مياه النيل بين دول المنبع والمصبّ) إلا أنّ انحياز الخرطوم للتوازنات الجديدة صلب دول حوض النيل عزل القاهرة وجعلها أمام فرضيتين مريرتين؛ إمّا القبول بواقع نهب النيل ضمن ما تشرّعه اتفاقية عنتابي، وإمّا الانخراط ضمن الحلول العسكرية دفاعا عن الأمن المائي القومي وهو مستبعد في ظل الدعم الإسرائيلي والغربي الذي تجده دول المنبع لمزيد التضييق على القاهرة.
وكما أن النيل أكثر من نهر، وكما أن مصر تاريخيا وجغرافيا وأنثروبولوجيا نحتت مع مجاري مياه النيل، فإن هزة نفسية عميقة مسّت الشخصيّة المصرية التي تبصر يوميا انحسار منسوبه ونفوق أسماكه في ظل خطاب رسميّ يقتبس شرعيّته من الدفاع عن ارتسامات ومحددات مصر العتيقة والأصيلة.
مع إشكال النيل، تقفز أزمة جزيرتي تيران وصنافير إلى المشهد المحلي وإلى الوجدان المصري، لا سيما وأن رمزية الجزر متعلقة برأسمال اعتباري كلله الشهداء المصريون بدمائهم على ترابها في ثلاث حروب مع الكيان الصهيوني؛ 1956 و1967 و1973. ولن نجانب الصواب إن اعتبرنا أن القضية غير مرتبطة بترسيم الحدود بين مصر والسعودية، وأن قرار الرئيس السيسي بتشكيل لجنة لدراسة القضايا الخلافية في الجزر مخالف لكينونة الإشكال وبعيد عن أصله.
ذلك أنّ الحرب التي خيضت في 1973 لاسترجاع سيناء ومعها الجزيرتان كانت بقرار وإرادة وإصرار شعبي مصري خالص، وأن الفاعل الرسمي العسكري في تلك اللحظة التاريخية، على يقينه بضرورة خوض الحرب، كان يتحرك وفق الإجماع المصري العارم بحتمية استرداد الأرض واستيفاء العرض. ما يعني أن مصير الجزيرتين في يد ورهن السلطة العليا الشعبية، وليست السلطة المنتخبة أو المفوّضة، دون الزج بالعلاقات المصرية السعودية سواء منها الرسمية أو الشعبية في متاهات سياسية سمجة أو منعرجات دبلوماسية خطيرة تخدم الحسابات الإقليمية لقوى متربصة بالرياض وبالقاهرة معا.
في ظل هذه الأزمة بين النظام ووجدان الإنسان المصري، تتدخل الخرطوم للنفخ في رماد أزمة بين مصر والسودان في حلايب وشلاتين. تعرف الخرطوم أن تكرار سيناريو جزيرتي صنافير وتيران مستحيل، وأن التفاوض حولهما مستبعد جدا، غير أن سقف سلوكها السياسي كامن في إحراج النظام المصري محليا وإقليميا ودوليا، وإظهاره في صورة المفرط بحدوده والمتنازل عن أرضه.
ولئن كان الكشف الصحافي والسياسي عن نية الرئيس المصري السابق محمد مرسي التفريط في سيناء لإسرائيل لتكون أرضا لعودة اللاجئين والتنازل عن حلايب وشلاتين للسودان مقدّمة لسقوط مرسي رمزيا قبل إسقاطه سياسيا وإجرائيا، فمن الواضح أن الرسالة السودانية لا تخرج عن سياق مزيد تأزيم المشهد المصري.