من الا شيء إلى كل شيء في #لبنان: مسيرة السيطرة لحزب الله وارهاصات الولادة

ماجد الماجد

 تنتهي المعارك فيخرج شخص من تحت الأنقاض، فيكتشف أنه الوحيد الذي نجا من جهنم المدافع، فتنتابه فرحة النجاة رغم الدمار الساحق...هذا إلى حد بعيد ما قام به السيد حسن نصر الله بعد أن وضعت حرب 2006 أوزارها، عندما خرج يحتفل بانتصاره الحالم على اسرائيل في مشهد يشبه احتفال المرء ببقائه على الحياة بعد موت الأهل والرفاق، فالغزو الاسرائيلي كبد الحزب وكبد لبنان خسائر جسيمة في الأرواح، وخسائر بالمليارات جراء التهديم للبنية التحتية والبنايات. لكن شاءت مشيئة الحزب إلا أن تحول الهزيمة إلى نصر يستحق الاحتفال رغم جروح الأطفال ودموع الثكلى، لتبدأ منذ هذا التاريخ مرحلة السيطرة والتمكين لحزب الله على لبنان.

 

لكن قبلها كانت مراحل أخرى حري بنا مطالعتها لعلنا نفهم المسار الذي قطعه الحزب في رحلته من الا شيء إلى أن أصبح كل شيء في شبه دولة تعيش في أحشائها دولة لها نظمها وايديولوجيتها ودستورها وجيشها كذلك!

 

 

الانتقام جراء التهميش

 

 

بعد استقلال لبنان سنة 1943، ستجد البلاد نفسها عليلة بالتقسيمات الطائفية على أساس عقائدي، أفرزت توافقات على توزيع المناصب في البلاد طبقا لتحصيص طائفي بعيدا عن مفهوم الدولة الوطنية، كما كان الدستور اللبناني المحدث صورة سطحية لتجميع الطوائف والتجمعات في كيان توافقي بينما ظلت القواعد تعاني أفظع أنواع التفرقة، فترعرعت دولة  تسير حسب أهواء الجماعات بدلا عن ضوابط القانون والاجماع الوطني، حيث عجزت الدولة عن جعل الولاء للقيم الوطنية الشاملة في موضع متقدم عن الاذعان للإملاءات الطائفية المحدودة، فاصبحت الجماعة مقدمة على الوطن وهذا ما انعكس على التركيبة السكانية لجل المناطق اللبنانية، بل وانعكس حتى على الأمن الاجتماعي المفروض تحقيقه بين رعايا الدولة الواحدة. فحتى المدن الرئيسية التي عرفت باستقطاب المواطنين من كل الطوائف والمناطق لأسباب اقتصادية واجتماعية، هي الأخرى لم تسلم من هذا التجريف الطائفي الذي غذى بذور التفرقة والنزاع في المجتمع الواحد، حيث كل مدينة إلا وصنفت بتبعيتها لطائفة معينة مع وجود بعض الأقليات، وهذا ما خلق تنافرا أدى إلى موجة من الترحال لمن تم نعتهم بالغرباء في اتجاه المدن الحاضنة للجماعة الأم بحثا عن الحضن العائلي وحرارة الانتماء.

 

كانت نسبة قليلة من الكتلة الشيعية مشتتة في ضواحي بيروت سعيا لظروف معيشية ملائمة، بينما التوطين الفعال لها كان في الجنوب اللبناني، وهي المنطقة التي أضحت منسية من المخططات الانمائية للدولة، ولاختيارهم العزلة بالجنوب بعيدا عن المدن الرئيسية ظهر شيعة لبنان أكثر فقرا وبؤسا بالمقارنة مع باقي الفصائل...عانوا التهميش واختاروا هم العزلة فشعروا بالدونية الاجتماعية والسياسية،  خصوصا مع ما جاء به الميثاق الوطني من تقسيم السلطة بين السنيين والمارونيين، في حين تم استبعاد الشيعة من الهياكل السياسية والتنفيذية، ليحصلوا على تمثيل ضعيف جدا في المؤسسات السيادية لا يتناسب إطلاقا مع كتلتهم العددية التي أضحت تتفوق على بعض الطوائف الأخرى بفعل النمو الديموغرافي الملحوظ في المناطق المعروفة بالتكتل الشيعي، ليبرز ذلك جليا مع بداية السبعينات من القرن الماضي قبل اندلاع الحرب الأهلية بين الطوائف. هذا الأمر خلق تململا شيعيا يوشك على الانفجار  خصوصا بعد تأسيس حركة محرومين من طرف موسى الصدر، الذي سعى رفقة شخصيات شيعية إلى تمكين أتباعهم من الانخراط في العمل التنفيذي في سبيل انصاف الطائفة التي ظلت لزمن طويل تعتمد في خدمة مناطقها على الأعمال الأهلية البعيدة كل البعد عن أي دعم أو اهتمام من الدولة. فالحكومات المتعاقبة كانت تولي اهتماما للعاصمة وكبريات المدن- دون النظر لمذهبها -على حساب الضواحي بما فيها الضاحية الجنوبية التي عانت من غياب المؤسسات الخدمية للقطاع العام مع ضعف شامل في البنية التحتية.

 

البذرة التي غرستها الحرب الأهلية

 

هذا الحال شكل تربة خصبة لنمو التعصب والتشدد في الأوساط الشيعية، لبداية نشوء حركات شيعية رافضة للتهميش...لكن المنعطف الأهم في هذا التحول سيبدأ مع الحرب الأهلية سنة 1975، حين تحولت لبنان إلى جماعات مسعورة تتقاذف بينها الموت في سبيل الغنائم والسلطة، ليشكل ذلك امتدادا للأخطاء السالفة التي اقترفتها النخبة اللبنانية عندما غلبت الانتماء للطائفة على حساب ولائها للوطن، فكان من الطبيعي أمام هذه الفوضى أن تبزغ البوادر الأولى لولادة منظمة ستصبح في المستقبل أقوى تجمع مسلح في لبنان !

 

الإرهاصات الأولى للمخاض كانت مع حركة أمل التي أسسها موسى الصدر لتشكل خير امتداد لحركة محرومين السابقة، أو هي تطور استراتيجي من الكفاح السلمي إلى كفاح مسلح من أجل اثبات الذات والحصول على موطئ قدم بين الطوائف المتناحرة، خصوصا أن الشيعة كان لهم موقف سلبي من التوجه نحو الغرب الذي جسدته القوة المسيحية المسيطرة على الحكم في البلاد، فوجد الشيعة المخرج في مناصرة الفصائل الفلسطينية التي دخلت لتحارب في أرض الغير، فيصبح الاصطفاف على أساس ديني، شيعي وسني في مواجهة الطوائف المسيحية التي كانت ترفض التواجد الفلسطيني في البلاد.

ما سبق شكل أول معالم انحياز الفصيل الشيعي إلى انتمائه العقائدي بدلا عن الانتماء للوطن، وهو اتجاه كان مبررا لحد كبير مع حالة الهيمنة التي مارستها الطوائف المسيحية على جميع المستويات وبتزكية دولية معلنة، ثم المبرر الثاني والحاسم يمكن نسجه من خلال هذا السؤال: هل توجد دولة في الأصل حتى تجسد للشيعة مفهوم الانتماء؟

 

لا دولة في لبنان، عنوان كتب بالخط العريض منذ الاستقلال إلى الآن، لكن في هذه المرحلة كان له الدور الحاسم في رص البواعث الأولى لتشكيل حزب الله، فغياب التوافق الوطني أدى مسبقا إلى تشكيل ميلشيات طائفية مسلحة منتشرة عبر كل مناطق البلاد، فالتسليح كان على أشده وبصورة معلنة، بل كانت وسائل الاعلام تنشر مشاهدا للتشكيلات المسلحة بشكل احتفالي يوحي بغياب القانون في أرض الا قانون! لذلك لم يكن غريبا على الفصيل الشيعي مجسدا في حركة أمل أن يشكل مجموعات مسلحة للدفاع عن وجوده في أرض تحكمها الفوضى العارمة، وهي فوضى سمحت للفصائل الفلسطينية أن تنقل الصراع إلى أرض الجوار في غياب الحارس الأمين للبلاد المجاورة... فلم يكن غريبا أيضا أن تنطلق الحرب الأهلية بتلك الضراوة، ما دامت الدولة قد تركت الحبل على الغارب لكل من هب ودب أن يمتطي بندقيته ويخرج إلى الشارع! وذلك منذ الاستقلال إلى تاريخ أول طلقة في حرب مشؤومة كان وقودها لبنانيون انساقوا خلف الاملاءات الطائفية دون أي اعتبار لوحدة الوطن.  

 

الثورة الايرانية ومنبع التأسيس 

للتاريخ فقط، فحركة أمل نشأت مع اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975، وذلك قبل التدخل السوري أو الغزو الاسرائيلي، لكن ماذا عن التدخل الإيراني؟

عقب هذه الأحداث كان الخميني في منفاه يعيش مخاضا عسيرا لينجب بعده نظريته المشهورة حول حاكمية الولي الفقيه، وذلك بعد انسلاخه عن الامامية التي نزعت السلطة والحكم عن أي بشر دون الامام المنتظر، فرأى الخميني لأسباب خاصة أن الفقهاء بعدلهم يمكنهم أن يقيموا الدولة الاسلامية العادلة دون الحاجة إلى انتظار الامام المنتظر الذي سيزيد غيابه من تجميد الأحكام الاسلامية.

 

هذه الرؤية ستنزل إلى أرض الواقع مع نزول طائرة الخميني الذي أضحى روح الله المقدسة في مطار طهران، وذلك في الأول من فبراير سنة 1979، فكانت الجماهير الايرانية التي زرعت بذور الثورة على الشاه تترقب وصوله لتسلمه ثمار زرعها  قبل سنوات ماضية مرتمية في حضن الحكم الديني الأصولي، هذا الحكم الذي قام على الفور بقمع كل الفصائل التي ساهمت في خلع الشاه في سبيل توطيد ولاية الفقيه التي ستتسرب مبادئها سريعا في الجسد الشيعي الممتد في كل أرجاء المنطقة، ليتم استدعاء العلاقات التاريخية والعقائدية بين الشيعة في كل من لبنان وطهران، وهذا ما شكل الزاما على الشيعة في لبنان بحكم الولاء للطائفة على حساب الوطن أن يقفوا منبهرين بإنجازات الثورة الايرانية، معجبين بتسليم الايرانيين رقابهم للولي الفقيه، فكان ذلك أمرا يستميل مشاعر التبعية لدى هذا الفصيل الذي أعلن سابقا ولاءه للجانب العقائدي على حساب أي توحد وطني، فبدا الأمر طبيعيا ومنتظرا ما دامت الحركات الشيعية انحازت بشكل واضح للجانب السني في الحرب الدائرة في لبنان على حساب الجانب المسيحي أو الماروني الذي عاكسها في العقائد والأيديولوجيات...فاذا كان الأمر كذلك مع السنة من فلسطين، فماذا سنتوقع فعلهم مع الشيعة من ايران ؟

هنا يمكن أن نتحدث عن التوافق الفكري بين علماء الشيعة في كلا البلدين، هذا التوافق الذي لم يكن وليد الثورة الايرانية فقط، بل كان ممتدا عبر لقاءات سابقة خصوصا في مدينة النجف العراقية في اطار الدوائر التعليمية، خصوصا مع الشيخ حسين فضل الله الذي يعتبر لحد ما الزعيم الروحي لحزب الله، هذا الأخير الذي كرس الأسس المذهبية الأكثر توافقا مع مبادئ وأفكار الثورة الايرانية حتى قبل نجاحها...أما بالنسبة للشباب الشيعي في لبنان فقد وجد في نموذج الثورة الايرانية ملاذا للخلاص من التشتت، بعدما تفرق جلهم بين حركة أمل والأحزاب والمنظمات القومية واليسارية في البلاد عقب الحرب الأهلية.

 

الآن يمكن أن نقول أن الثورة الايرانية مثلت صرخة الولادة لحزب الله الذي بدأ في لملمة صفوفه ناقما على الفصائل المتحاربة في بلاد الموطن، ومنبهرا في نفس الوقت بالتوحد المذهبي الذي رسمته ولاية الفقيه في عقل الشباب الشيعي اللبناني المتعطش للولاء والانتماء، لكنه مع الاسف كان ولاء عابرا للحدود ولاء يضع الوطن ثانيا وربما عاشرا اذا اقتضى الأمر...في تلك الفترة بدأ وضع اللبنات الأساسية لتكوين الحزب يتكشف ، بعد الانجراف الواسع لتأييد من أصبح روح الله وآيته السيد الخميني، الذي سيصبح له بعد ذلك وكيلاً شرعياً في البلاد وهو: الأمين العام لحزب الله.

 

وهنا يمكننا أن نطير للمستقبل القريب لنتأمل البيان الذي أصدره الحزب عقب تأسيسه الرسمي سنة 1985، بيان نعى فيه أي انتماء للدولة اللبنانية بهذا النص:  "إن الحزب ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة".

بل خرج حسن نصر الله قبل أن يكون أمينا عاما للحزب في خطابه الشهير يقول: " إن لبنان ستكون تابعة للدولة الاسلامية التي يحكمها صاحب الزمان ووليه بالحق الولي الفقيه الخميني!!"

 

حجة الاجتياح الاسرائيلي للبنان

 

صحيح أن المخاض العسير لولادة الحزب تزامن مع الحرب الأهلية والثورة الايرانية، إلا أن الأمر كان يشبه حاجة الغيوم لجسم بارد حتى تندي مطرا، فالتفاعلات كانت في حاجة لإسرائيل العدو اللدود لحزب الله الذي أخرج الحزب من رحم الأرض الشيعية لينطق في مهده بالسلاح والبندقية، وذلك لمواجهة الهجوم الاسرائيلي على لبنان في محطتيه الاولى سنة 1978 المعروفة بعملية الليطاني، ثم سنة 1982 المعروفة بحرب لبنان. 

 

فالغزو الاسرائيلي الذي كان بدعوى طرد الفصائل الفلسطينية حصد مئات الأرواح في الجانب الشيعي، وهذا ما أنجب نفسا مسعورة للانتقام من الترهل الذي تعانيه الدولة في الدفاع عن رعاياها من الشيعة، باعتبارهم وسنة لبنان المتضررين من الغزو الاسرائيلي الذي كان يستهدف بالأساس ملاطفة المسيحيين على حساب المسلمين باعتبارهم القوة المسيطرة على القرار في البلاد، وبالتالي يمكن استمالتهم الى تنازلات سخية فيما يخص طرد الفلسطينيين وابرام اتفاق للسلام دائم بين البلدين.

 

مرة أخرى يجعل الشيعة أنفسهم في موقع الضحية للنظام الطائفي في بلادهم حتى لو كان الأمر بسلاح اسرائيلي، هكذا كان يسوق رجال الدين والشخصيات الشيعية للفقراء من أبناء الجنوب بالتأثير النفسي والعقائدي، لجعلهم أكثر شراسة في الغضب من الأوضاع الراهنة آنذاك في لبنان، وفي نفس الوقت مقاومة التواجد الاسرائيلي على الأرض اللبنانية، تلك المقاومة التي زاد من شرعيتها حماس اللبنانيين تجاه الجماعات المسلحة، التي تم التعويل عليها لتعويض الفتور الرسمي الذي سمح لإسرائيل أن ترتع في أعماق بيروت في مشهد يدمي القلوب المتحسرة على غياب جيش نظامي قوي يحمي هيبة الدولة.

 

صحيح أن مقاومة الاجتياح الاسرائيلي كانت فعلا مشتركا لكل الطوائف اللبنانية، إلا أن الشيعة آنذاك استطاعوا الترويج بين اللبنانيين وفي الوسط الشيعي نفسه لمبدأ الريادة في دحض لاحتلال الاسرائيلي للأراضي اللبنانية، فتم تصدير التفوق الشيعي في مواجهة الإسرائيليين إلى عقول أغلب اللبنانيين، كما استطاعوا لعب دور الضحية المنفردة في سبيل حصد المزيد من التعاطف والشرعية، وهذا ما تحقق بالفعل على طول السنوات الثلاث الأولى منذ عام 1982 الموافق للاجتياح الاسرائيلي، إلى حدود عام 1985 المؤرخ للتأسيس الرسمي لحزب الله كمنظمة سياسية مسلحة شيعية أصولية، تستمد أيديولوجيتها من الولي الفقيه الخميني.

 

خلاصة

هذه نظرة سريعة على البواعث التي أدت إلى تشكل حزب الله، هي نظرة عامة دون الخوض في التفاصيل، لكن المؤكد أنها أعطتنا تصورا حول الدور الذي لعبه التشتت اللبناني في بعث ثعبان ربما سيلدغهم في مستقبل الأيام....وهذا ما سنعاينه في الحلقة القادمة من هذا الموضوع.

انتظروني